أقام منتدى الفكر والثقافة والإبداع بطنجة لقاء تكريميا للدكتور الباحث خالد أمين، يوم الأربعاء فاتح يونيو الجاري، تميز بحضور وازن لأصدقاء المكرم من مثقفين وفنانين وإعلاميين ومسرحيين ونقاد وباحثين وجامعيين من طنجة ومن خارجها، واحتفت طنجة بابنها خالد أمين في جو من المودة والحميمية والإنصات والتبادل. في هذه الأجواء تحدث الباحث خالد أمين عن مساراته وتجربته مع البحث والكتابة والإبداع، فكانت هذه الورقة: الشكر والامتنان إلى منتدى الفكر والثقافة والإبداع على هذا اللقاء الحميمي والجميل، لقاء المحبة والصفاء في زمن صعب تسود فيه الرداءة والغوغائية والأحقاد المجانية. لقاء المحبة، لأن ما يجمعني مع هذه الثلة الكريمة من رموز الإبداع والبحث المسرحي المغربي هو العمق الإنساني أولا وقبل كل شيء؛ أما المسرح فهو المحبة ذاتها. اشتغالي المتواضع يمكن أن ألخصه في مسارين متشابهين في العمق رغم اختلافهما في الظاهر. ولكن قبل الحديث عن هذين المسارين أريد أن أتحدث بعض الشيء عن الموقع الذي أنطق منه، وهو تحديدا موقع المابينية. فمن جانب البحث الأكاديمي، أنتمي إلى حقل الدراسات الأنجليزية، كما أن لغة البحث عندي هي الأنجليزية وهذا راجع لطبيعة عملي كأستاذ باحث في شعبة اللغة والآداب الأنجليزية. ولكن عشقي للمسرح المغربي ورغبتي في المساهمة في النهوض بأحواله جعلاني أركز بحثي في الاشتغال على هذا المسرح بلغة شكسبير. فمند أن وطأت قدماي جامعة إسكس ببريطانيا سنة 1990 بهدف الدراسات العليا، ووجهت بسؤال روجر هاورد، رئيس قسم المسرح في تلك الجامعة العريقة، «ماذا عن المسرح المغربي؟»، حينها أدركت أنه من واجبي الاشتغال على الذات في حدود علاقتها بآخرها. فكانت الانطلاقة من شكسبير في المسرح المغربي رفقة أستاذي الدكتور حسن المنيعي والأستاذ محمد العميري. مرحلة كلية الآداب بمكناس شكلت أس هذا المشروع النقدي الحالم والذي حاولت من خلاله طرح سؤال وجودي إلى حد ما: ما هو موقع شعب اللغات في الثقافة المغربية؟ ما هي حدود مساهمة الباحثين باللغات الأجنبية في تنمية الثقافة المغربية؟ لا أدعي أنني حققت الكثير، ولكني حاولت قدر الإمكان أن أساهم في مد جسور التواصل بين الذات وآخرها في الضفة الشمالية. لذلك أصبحت أكتب بالإنجليزية حول موضوعات المسرح المغربي، وبالعربية حول ما يروج في الساحة الأنجلو أمريكية تفاديا للوساطات المشرقية. أما الأسباب فكانت كثيرة، ولعل أبرزها هو شبه غياب المسرح المغاربي من الكتابات بالإنجليزية التي اهتمت بالموضوع، مركزة على المشرق العربي فقط. من هنا كان إحساسي بالمسؤولية الجسيمة. الآن تغمرني سعادة بالغة بعد إنهاء أول كتاب عن المسرح المغاربي بالإنجليزية رفقة صديقي مارفن كارلسن، والذي سيصدر في الشهر القادم ضمن منشورات بالكرايف بلندن. المسار الأول: هو مسار البحث لقد انطلقت في هذا المشروع النقدي مند بداية التسعينيات من «الهجنة المسرحية»، وركزت بالأساس على فرجات «التابع» subaltern وكيفية اختراق النموذج المسرحي الغربي في نفس الوقت الذي يتم فيه استنساخه، أو تبنيه. فهذا الاختراق يشكل في حد ذاته حجر الزاوية لتأسيس الاختلاف المسرحي للتابع. الآن، مفهوم الهجنة المسرحية أصبح يطرح لدي بعض الالتباسات، لذلك أقبلت على مراجعته في أفق تجاوزه. لقد تعمدت اختيار مفهوم آخر وهو «تناسج الثقافات الفرجوية» وهو مستلهم من المفكرة الألمانية إريكا فيشر. يستشرف مشروع تناسج الثقافات المسرحية أفقا جديدا من التنوع الفرجوي عوض السقوط في أوربة أو تنميط الثقافات المسرحية الغير غربية، ذلك أن المفهوم الجديد يضع اليد بشكل دقيق على جوهر الثقافة من حيث هي سيرورة مستمرة ومجددة لبنية الاختلاف. بفضل ظاهرة التناسج يتضمن المسرح قابلية هائلة لانصهار واندماج الهويات الهاربة والمجموعات المهاجرة، ولكن البحث المسرحي لم ينتبه بالقدر الكافي من الاشتغال على هذا الجانب... في السياق ذاته، فإن القابلية المثالية الكامنة في الفرجات التي تعتمد على تفاعل فنانين من ثقافات وتقاليد مختلفة في ظل عالم معولم وسريع التحول، لا زالت في حاجة لاهتمام نقدي أكثر دقة من مجرد احتفاء بالتنوع في إطار ما سمي ب المثاقفة المسرحية. تؤكد سيرورات التناسج كيف يمكن استثمار الاختلاف لإبداع عمل موحد، بل ومستقبل واحد. ينبغي، إذن، مرافقة ودراسة هذه السيرورات أثناء التداريب إلى أن تصل لجمهورها المختلف كفرجات جاهزة.. فالبحث المتعدد الاختصاصات هو السبيل لدراسة تناسج الثقافات المسرحية. نقد مسرح المثاقفة يقول بروك في مطلع كتابه «المساحة الفارغة»: «يمكنني أن آخذ أي مساحة فارغة وأسميها خشبة عارية. يقتحم رجل ما هذه المساحة الفارغة بينما يشاهده آخر، فهذا كل ما أحتاجه لتحقيق الفعل المسرحي.» (ص. 11) ولكن، هل توجد حقا مساحة فارغة؟ لقد أثار إنتاج «ماهاباراطا»، والذي قدمه بروك في مهرجان أفنيون سنة 1985 خلال تسع ساعات طوال نقاشا حادا عن مدى فراغ المساحة التي تمت فيها إعادة صياغة ماهاباراطا. فرغم أن بروك يشتغل مع مجموعة هائلة من الممثلين من الثقافات المختلفة، إلا أن الكل يشتغل باللغة الأنجليزية، والكل يأتمر من طرف بروك المدير الفني والموجه الحقيقي لمسارات استنبات ماهاباراطا في مساحته الفارغة المزعومة: «فلما يضع بصماته على العمل، لم يعد هؤلاء ينتمون إلى ثقافاتهم بقدر ما يصبحون جزءا من عالم بيتر بروك.»1 ولعل أهم نقد وجه لبروك خلال فثرة حروب المثاقفة Intercultural warsهو كتابات روستم باروتشا Rustom Barucha والتي خلصت إلى أنه يستحيل عزل ثقافة ماهاباراطا من النص أو حتى الفرجة. والحال أن ماهاباراطا هي مجرد محطة ضمن مسار بروك الحافل بفلسفة المثاقفة ضمن مشروعه الحالم للبحث عن لغة مسرحية كونية. فاشتغاله في «منطق الطير» Conference of the Birds التي قدمها بمهرجان أفنيون لسنة 1979، استلهم من منظومة «منطق الطير» لأحد أكبر أئمة التصوف الإسلامي، الفارسي فريد الدين العطار. اعتمد بروك على فريق متعدد الجنسيات، بل أكثر من هذا تطلب إنجاز هذا العمل الضخم التنقل عبر الصحراء الأفريقية والتشبع بطقوسها وفرجاتها لمدة سنتين من 1972 إلى 1974، وبعد ذلك إقامة فنية في El Teatro Campesino بكاليفورنيا. باختصار، بما أن الثقافات الإنسانية تعيش باستمرار داخل سيرورة التبادلات المادية والرمزية، ليس من الجدي أن نميز بين ما هو ملك لنا وما هو غريب عنا، ولكن هذا لا يعني أننا نسعى لإزاحة بنية الاختلاف، ذلك أن الاختلاف يعيد إنتاج ذاته باستمرار ويتعين تمييزه كما هو، لا أقل ولا أكثر. من هذا المكان أصبح من الضروري الانتباه إلى الحساسيات المسرحية الجديدة التي نلمسها في معظم المهرجانات العربية، ورؤيتها من منظور مغاير يؤمن كما يؤكد الدكتور حسن المنيعي في معرض حديثه عن راهن المسرح المغربي ب «تفاعل المسرحيين المغاربة مع أطروحات الثقافة المسرحية الأوربية وتقنياتها.»2 لم يعد هناك مجال للمزايدات بخصوص التأثيرات الغربية في المسرح العربي، وذلك لأن المسرح، ببساطة، فن طارئ في البلاد العربية. كما أن إنجازات التجارب الغربية والشرقية أصبحت جزءا لا يتجزأ من التاريخ المسرحي الإنساني (بشرقه وغربه، شماله وجنوبه). والحال أن «عبارات الرفض تجاه الثقافة الغربية لا يمكن أن تشكل بحد ذاتها ثقافة، والشطحات على آثار الذات السليبة لا تعيدها إلى الحياة. مع مرور الأيام سيزداد حتما عدد من لا يغرق في التقنية ويسأم من نواح عقيم فيدرك حقيقة التحول الذي حصل يوما في تاريخ أوربا.»3 وعندما يتحقق ذلك وتطمئن النفس العربية وتتصالح مع التاريخ، كما يذكرنا المفكر المغربي عبد الله العروي، «سيتواصل البحث عن الأصالة، لا شك في ذلك، لأنه الوجه الآخر لضعفنا الراهن، عجزنا عن تطويع الطبيعة والتحكم في المجتمع. سيظل انصداع ذاتنا يشير إلى ترددنا بين تاريخين، بين زمنين، كلاهما حل فينا، إلا أننا سوف نتقبله كمحنة عابرة لا كلعنة دائمة.»4 ولعل بداية نهاية «المحنة العابرة» بدأت تلوح في الأفق مع «ربيع الثورات العربية». المسار الثاني: هو مسار مرتبط بانشغالاتي النظرية، لكن هذه المرة، على مستوى الممارسة الميدانية. إنني أومن بضرورة تورط الباحث في تربة المجال الذي يشتغل فيه، من حيث هو باحث مواطن citizen Scholar. فنظرا لاشتغالنا في مجال صعب وهامشي في الثقافة المغربية والجامعة المغربية بخاصة، مقارنة مع الأجناس الأخرى، ارتبط المسرح في الجامعة المغربية بإرادات فردية بدأ من الدكتور حسن المنيعي مؤسس الدرس المسرحي برحاب الجامعة المغربية. فهذا الوضع الملتبس جعلنا نبادر بإنشاء مجموعة البحث في المسرح مباشرة بعد التحاقي بكلية الآداب بتطوان سنة 1998. ورسمنا إستراتيجية عمل تشاركي يتفاعل فيه كل الباحثين المغاربة والأجانب.... فجاءت سلسلة من الندوات الوطنية والدولية كانت دائما تحاول قدر الإمكان التفاعل مع نبض الجسد المسرحي المغربي بجميع مكوناته، وتطرح الأسئلة الحقيقية... مراجعة قائمة الإصدارات تؤكد مدى أهمية ندواتنا والتي أصبحت تعتمد كمراجع الأساسية من طرف الباحثين الجادين في المغرب والخارج... ولكن أيضا حوربنا وحوصرنا داخل الجامعة، وتبين لنا بالملموس أن اشتغالنا أحيانا يزعج بعض المسيرين المزاجيين كالعميد السابق لكلية الآداب بتطوان، ولم نستسلم لجميع أشكال التيئيس، فأنشأنا المركز الدولي لدراسات الفرجة، كأفق للبحث وامتداد رحب لاشتغالنا داخل الجامعة، بل صيغة مثالية لانفتاح الجامعة على محيطها. رفضنا الاستسلام لليأس، بل استثمرنا مسلسل التيئيس والذي كان يهدف لإحباطنا، لأجل خلق البديل وهو أفق آخر للاشتغال حتى لا يأتي علينا يوم نقول فيه «هرمنا». هوامش 1 Rustom Barucha, Theatre and the World, p. 81. 2- حسن المنيعي، ويبقى الإبداع (طنجة: منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة، 2009) ص. 22 3- عبد الله العروي، الايدولوجيا العربية المعاصرة (الدارالبيضاء، المركز الثقافي العربي الطبعة الثانية، 1999) ص. 86. 4 - المرجع نفسه.