عدة مؤشرات تسمح بالحديث عن عودة قوية للفيلم الوثائقي، وذلك على عدة مستويات. وهي ظاهرة شاملة/عالمية، والمغرب أيضا يعيش بعض تعبيرات هذه النهضة. وهي تتخذ أشكالا متنوعة. فرغم أن هذا الجنس يحتل، بحكم طبيعة وبنية آليات التوزيع، موقعا هامشيا داخل السوق السينمائي، فإنه يحظى بجماهيرية متميزة تتجلى في تزايد الطلب على هذا النوع من الأفلام من طرف مؤسسات وهيئات من مهرجانات وقنوات تلفزية. ومن حين إلى آخر تفرض بعض الأفلام الوثائقية قوتها على قانون العرض وتلقى نجاحا على مستوى القاعات التجارية ونجدها تتصدر أغلفة المجلات المتخصصة. وآخر مثال على ذلك، قبل حلول الجائحة، هو فيلم «سيتي هول» لفرديريك ويزمان، المخرج الذي يعتبر ليس فقط من أبرز رواد الفيلم الوثائقي بل من أكبر السينمائيين. وفي المغرب هناك «دينامية وثائقية» حقيقية لا تتجلى فقط في العدد المتزايد من التظاهرات واللقاءات المخصصة للفيلم الوثائقي، بل يعبر عنها أيضا إقبال السينمائيين الشباب على اختيار ولوج التعبير السينمائي من بوابة الفيلم الوثائقي. ولقد لمست ذلك عن قرب هذه السنة عند تقديم درسي حول تاريخ السينما الإفريقية بالمدرسة العليا للسمعي البصري بمراكش حيث يستقبل الطلبة بحماس كبير عروض الفيلم الوثائقي لدرجة أنهم قرروا إحداث ناد سينمائي جديد خاص لتقديم ومناقشة فيلم وثائقي مرة في الشهر… وعلى المستوى المؤسساتي تفاعل المركز السينمائي المغربي إيجابيا مع هذا المناخ الجديد فاتخذ سلسلة من إجراءات مهيكلة ذات بعد رمزي كبير. فعلى مستوى المهرجان الوطني للفيلم تم إحداث مسابقة جديدة مستقلة خاصة بالفيلم الوثائقي. وقد عرفت آخر نسخة قبل الجائحة (مارس 2020) تنظيم أول دورة في هذا الاتجاه. أما على مستوى لجنة الدعم فقد تم تعديل النص المحدد لعدد الأفلام المستفيدة من الدعم وذلك بإلغاء كوطا فيلمين وثائقيين في السنة… وهكذا، بعد هذا التعديل، سيتم التعامل مع الفيلم الوثائقي باعتباره فيلما سينمائيا أولا… وهذا مكسب مؤسساتي مهم، وتصحيح لمغالطة نظرية تقوم على أساس تقسيم لا يخلو من تعسف. والحاصل أن هذه العودة للفيلم الوثائقي تطرح ضرورة العودة أيضا للنقاشات المؤسسة للأجناس الفيلمية. وتدعونا لطرح السؤال حول طبيعة كل هذا السيل من الصور التي تقدم نفسها على أنها «فيلم وثائقي». ويمكن مقاربة ذلك انطلاقا من مجموعة من الثنائيات: الوثائقي/ التحقيق الصحافي (روبورتاج)، الوثائقي / الروائي.. علما أن اللغة العربية تسمح بثنائية منهجية حيث تفرق بين الوثائقي والتسجيلي. فالوثائقي فيلم يعتمد صورا موجودة من قبل (أرشيف)، مجموعة وثائق مصورة سابقا لإعادة تركيبها في خطاب جديد (نموذج «الذاكرة 14» لأحمد البوعناني)، والتسجيلي هو الفيلم الذي ينطلق من تصوير واقع أو ظاهرة معينة. ثم التساؤل أيضا عن درجة حضور التمثيل أو إعادة التمثيل داخل الفيلم الوثائقي. علما أن التقسيم وثائقي / روائي يفتقد الدقة لكون جميع الأفلام الوثائقية «روائية» بشكل ما، لها بداية ونهاية وتنسج تداول المشاهد في نسق روائي. ربما يمكن الحديث عن ثنائية «وثائقي/ تخييلي». أقول هذا وأنا أستحضر مقولتين أساسيتين على المستوى النظري. فنجد كريستاين مس، مؤسس سميولوجية السينما، يقول بأن جميع الأفلام روائية/حكائية (فيكسيون). ونجد من جهة أخرى المخرج كودار يقول بأن جميع الأفلام وثائقية. وتركيب المقولتين يساعد على وضع تصور جمالي للفيلم الوثائقي. فوظيفته الرئيسة ليست إخبارية (وظيفة العمل الصحفي) بل تتجلى في إعادة صياغة إشكال ما بلغة سينمائية تتأسس على وجهة نظر صاحب الفيلم. فالسينما الوثائقية هي بالطبيعة سينما المؤلف. ويمكن أن أذكر هنا نموذجا عالميا بارزا في هذا الاتجاه وهو السينمائي الصيني وانغ بينغ، صاحب الملحمة السينمائية «في غرب سكة الحديد» والتحفة «ثلاث أخوات من يونان». أفلام تلغي الحدود بين الأجناس الفيلمية لتحتفي بقوة التعبير السينمائي.