قبل سنوات قليلة، كان الكاتب ينفق كثيرا من الوقت قبل أن يوصل كتاباته إلى جريدة أو مجلة. يكتب نصه القصصي أو الشعري أو النقدي على الورق، ينقله إلى ورق آخر، ويحتفظ بالمسودة. يذهب بعد ذلك إلى الدكان لشراء الظرف والطابع البريدي، ثم ينتقل إلى مكتب البريد ليبعث بمراسلته التي لن تصل إلا بعد يومين على الأقل وذلك حسب بعد المسافة. ينتظر بلهفة نشر نصه الإبداعي أو النقدي. يواظب على شراء الجريدة أو المجلة حتى لا يفوته الاطلاع على العدد الذي ينشر فيه مراسلته. كان ذلك متعبا بالنسبة إلى الكاتب، لكنه كان يجد متعة كبيرة، خصوصا عندما يطلع على مراسلته منشورة وتحتها توقيعه واسم مدينته وأحيانا مرفقة بصورته. من وقت إلى آخر كان هناك من ينجز قراءة نقدية لما ينشره. يقضي مدة غير يسيرة في استيعابها. اليوم لم يعد هذا الكاتب بحاجة إلى الورق ولا الظرف ولا الطابع البريدي، لم يعد بحاجة إلى التنقل لأجل إرسال كتاباته إلى الجريدة أو المجلة. صار بمقدوره أن يبعث بنصه الإبداعي بمجرد أن ينتهي من كتابته. لم يعد بحاجة إلى من ينشر له كتاباته. أصبح مستغنيا عن ذلك، صار ينشر كتاباته وقتما شاء، في صفحة اجتماعية يطلع عليها عدد لا محدود من القراء. يترقب من يكتب مقالا نقديا حول ما ينشره، فتصله تعليقات، مجرد تعليقات، لا تعدو أن تكون عبارة عن تحية أو صورة تعبر عن مشاعر معينة يسمونها إيموتيكون، صار يفتقد إلى المقال النقدي الذي يدرس كتاباته من جميع الجوانب. لم يعد هاجس نشر كتاب ورقي يشغله كما في السابق، في تلك الفترة التي كان الورق له سطوته بمختلف المجالات. يمكن له أن يجمع نصوصه وينشرها في شكل نسخة رقمية، لن يتطلب منه ذلك جهدا كبيرا. سيكون في حل من الناشر ومن الموزع ومن مصمم الغلاف كذلك. سيكون بإمكانه إطلاع عدد لا محدود من القراء على إصداره الجديد. الكتاب الورقي والكتاب الإلكتروني كلاهما قابل للقراءة. هناك من تعود على القراءة الورقية إلى حد أنه لا يتحمل الشروط التي تفرضها التكنولوجيا الرقمية. في البداية كان يجد صعوبة في إتمام قراءة صفحة واحدة من الكتاب الإلكتروني، كان يبدو له شيئا شبيها بالأوهام. يمكن في أي لحظة أن يختفي من شاشة حاسوبه، ولا يكون بإمكانه بعد ذلك استرجاعه. الشيء الذي لا يصبر على تحمله، هو حين ينفق أياما وأياما في تأليف كتاب إلكتروني ما، وحين يحاول أن يفتحه، يستعصي عليه ذلك، سيكون عليه أن يستعين بالخبراء في مجال التكنولوجيا الرقمية، قد يجدون الحل وقد لا يجدونه. لكن الكتابة على الورق لها امتياز أنها غير مهددة بالاختفاء أو الإصابة بالتلف. يكفي وضعها في ملف وتصفيفها داخل درج المكتب أو في مكان آخر آمن، ثم العودة إليها دون أن تعترضه تلك الشروط الخاصة بالتكنولوجيا الرقمية. وحتى عندما يدفع بالكتاب إلى الطبع في إحدى دور النشر التي تحترم نفسها، سيكون بإمكانه الاحتفاظ بشيء هام، اسمه المسودة، إنها في حد ذاتها قابلة لقراءة خاصة يمكن أن تعمق معرفتنا بالكتاب المطبوع. غير أن كل هذا في طريقه إلى الزوال، وهو بدوره انخرط في هذا العالم الرقمي، غير مبال بآثاره السلبية، صار مقتنعا بأن هذا هو الخيار الأنسب لعصرنا الحالي، أما القادم من الأيام فإنه لا يستطيع أن يتنبأ به.