حوارات وألوان للألفية الثالثة لتدشين عمله الفني وإطلاق أول حلقات برنامجه السنوي، اختار رواق «ركن الفن»، أن ينظم معرضا جماعيا يجمع ثلاثة أجيال في حوارية لونية وأسلوبية قلما تجتمع. واحد يجعل من ملون الطبيعة بصمته ويترك لهذا الملون أن يعبر عن الضوء وهو يتحول إلى ألوان، صور ورنين، أشكال وعماء، ضياء ودجنة، ظاهر وماهية، ثبات وحراك، امتلاء وفراغ، وهو حال صباغة المنصوري. والآخر يشكل عمله الفني من داخل المرعي من القواعد الأكاديمية، لا يقيس فقط الفضاء المتجانس للوحة بقياس الاكتمال والدقة والوضوح بل يقيس أيضا الانطباع الذي يقصده وعلى العمل الفني أن يلقي به مفتوحا أمام ناظره، فلا تتعدد ألوانه وإنما تصطفى بعناية لكي ينتزع اللون والفضاء، الضوء والظل، هيبة الفراغ وثقل الامتلاء، إحساسنا بالجميل والمفرح: وهذا حال صباغة الفنان المبدع لحبيب لمسفر. ولئن كان لحبيب لمسفر على هوسه بضرورة العثور على توازن خلاق بين تمهير الاشتغال الصباغي على القواعد وانتقاء اللون بالحفاظ على تراتبيته وتجانسه، من أجل التعبير عن مشاعر الفرح، ولئن كان المنصوري يفتح ملون الطبيعة عن آخره ويستهويه استفزاز الناظر وحثه على الاستغراق من أجل الإمساك بالأشكال في فوضى المشوه، وهي الأشكال التي تشكل الصباغة لوحدها رسومها، وأن يجعل من الألوان في توالدها اللامتناهي منهله بتكثير البصمات كخلفية لهذا التوالد وباعتماد اضطراب وتحير المشاعر، فإن عائشة أحرضان الفنانة القادمة، تجمع اللون إلى قواعد الرسم باعتماد تقنية البصمة غير المكتملة (البصمة الخام). وهي بعد أن خبرت، منذ طفولتها، العمل على الورق المقوى والحبر الصيني الذي ميز اشتغال الوسط الفني العائلي الذي نشأت فيه، والذي اعتمد الحبر مادته الأولى في رسم أشكال غرائبية ومثيرة مع ضخ حمولة ثقافية محلية أمازيغية من خلال استعمال الرموز المرتبطة بهذه الثقافة (الركاب، الفرس، الخنجر، البندقية، فن الزربية، الزخرفة،...)، فإنها تتوزع في انتقالها من الاشتغال بالحبر الصيني والورق المقوى إلى الاشتغال على القماش وصباغة الزيت والريشة، بين رغبة عارمة في تجريب اختيارات فنية جديدة وبين هاجس الحفاظ على مكتسبات التعلم. لقد أدركت احرضان من خلال ممارستها التشكيلية الجديدة أن الحبر ليس لونا فبحثت عن بصمتها التي تركتها خارج تسوير ورسوم و»حواشي» الحبر الصيني، وهو التسوير الذي استعملته استعمالين: استعمال نقل حالة الرسام النفسية بعنف الخطوط السوداء كحدود، ثم استعمال اللون في مساحات ضيقة من داخل هذه الحدود للتعبير عن هويتها الثقافية الأمازيغية التي تعطي الانطباع بالوعي بهذا العبء، إذ نجد في أعمالها استعمال لتقنية النقش بالحناء واستثمار لعلامات الصناعة التقليدية: الحلي والزرابي والكثير من الرموز الثقافية التي تشكلها حروف تفيناغ، وكأنها تتحدى قدر المحلي وتتوق إلى أن يشارك في الكونية، بدون أن تتنازل قيد أنملة، على هويتها كأنثى أمازيغية باستعمال الجسد في أوضاع مختلفة، فيها الكثير من التمرد والاحتجاج على اضطهاد الحاضر وسطوة الذكورة، وفيها الكثير من مشاعر الأنثى وصراعاتها ونشداها الدائم للحرية. هكذا يقدم رواق ّركن الفن دعوة صريحة لإمتاع المشاهدة بلا حدود في ثلاثة أساليب تتباعد أكثر مما تقترب، أسلوب لمسفر الانطباعي البديع والمبهر في اختيار هارمونيا لونية للحظات هاربة عبر إيقاف حركتها من اجل امتداد لا محدود للإحساس بالجمال وقدرة هائلة على انتزاع الفرح والغبطة من ألوان قوية وعنيفة كالأحمر، مع تحكم دقيق في الفضاء الذي يكتنف العالم كمكان وزمان ويحيط به ويحويه، حيث اللون ممتد بلا حدود في مدا رجه داخل الفضاء المتجانس للوحة، وهو تدرج لوني خلاق، يميل الفنان دائما إلى ملئه بشحنة تستنفر الحواس وتنقل الشعور بالفرح والغبطة والسكينة (الأزرق السماوي الساطع، احمر ما بعد الغروب الأخاذ، والرمادي حيث الغيوم في منازلها ومد ارجها شفافة، وتباشير الشفق والضياء تنير عتمة الظلام) وهي جميعها هنيهات هاربة يتألق لحبيب لمسفر في الإمساك بها وإمتاع المشاهد بها... فتتوالى الفصول بهية نظرة بريشة الفنان كما يتلألأ الأجيج تارة ويترمد ويتكثف ظله طورا. هي ذي صباغة لمسفر التي احتفى بها شاعر المغرب محمد خير الدين... ثم أسلوب مغاير للمبدع محمد المنصوري يجعل من اللون إمارته ويختار تكثير البصمات التي تختار في نهاية أشكالها في فوضى وعماء، تغيب فيهما، لانتزاع الناظر من سلبيته وكسله، وكأنه يتوسل متلقيا رائيا قادرا على التحليق في «حلم متجدد ولا ينقطع»، قادر على مواكبة الإيقاع اللوني المتسربل، حيث الأشكال والكائنات تتبادل الرنين، وحيث الأجساد العارية لا تكف عن مماحكتها. وهو أسلوب لا يدعوك فقط إلى قبول ركوب حلم لوني تتوالد حركاته وأشكاله ورموزه وأبعاده، بل يدعوك أيضا «لكي ترى ما ترى»، لأنك بالتأكيد «سترى ما سترى»، سترى الأغوار والبرية، سترى الغيم في منازله، سترى الظلمات ومجاهل عينك وروحك، سترى اللون يجاور اللون، سترى اللون يقتحم اللون، سترى اللون ثملا منخطفا متدفقا في دوار وترنح متهتك يهدم الأشكال ويبتلعها ليدعو الرائي إلى توليدها من «قوة» كاووسية تحول المشاهدة إلى مشاركة متفاعلة مبدعة للصور والأشكال. أسلوب ثالث حيث تختار الفنانة عائشة أحرضان عبء نقل الذاكرة ، من ذاكرة للعرف والتقاليد ومقوماتها المادية، إلى ذاكرة بصرية تحيا بالفن لكنها تبقى متوزعة بين رغبة جامحة في تجاوز المكتسب والخروج عن شرنقة التابع وبين صيانة بعض مهارات هذا الاكتساب، من أجل انتزاع وسك طابع مخصوص، ستلجأ إليه الفنانة وهي تهيئ سطوح وخلفيات لوحاتها ببصمات تتركها متدفقة في خامتها خارج أسيجة وخطوط وحدود ورسوم الحبر الصيني، تكتنف وتحيط بجسد المرأة أو وجهها الموشوم والمطرز والمثقل بالرموز والعلامات ذات الطابع المحلي.