(جيفتي فريدة من نوعِها، عكسَ بقيةِ أفرادِ عائلتِها، لم تولدْ في غانا، نشأتْ في دولةٍ لا يعيش فيها غانيون كثيرون أو من غرب إفريقيا . كما قالتْ في وقتٍ من الأوقات، إنها (غانيةٌ مثلَ فطيرةِ التفاح..!(هي نوع من العزلة داخل عزلة، الأمر مختلف تمامًا عن تجربتي . لم أشعرْ بهذه العزلةِ بَتَاتًا . لقد ولدتُ في غانا، وكانتْ عائلتي ملتزمةً جدًّا بالبقاءِ على صِلةٍ بالثقافة . كنتُ دائما محْفوفةً بهذا المجتمع . لطالما شعرتُ بهذه الجذور)! الكاتبةُ الغينيةُ (يا جياسي) من خِلالِ قراءتِنا لأعْمالِ الروائيةِ الغينيةِ (يا جْياسي) التي تقرِنُ التاريخي بالأدبي، أي تنسُجُ أحداثا وحقائقَ تاريخيةً في سردٍ روائيٍّ مؤثِّرٍ، يُمْكِنُنا أنْ نُضيفَها إلى ذلك الجيلِ من الروادِ الأوائلِ (جومبا لاهيري، ييون لي، شيما ماندا نغوري أديتشي، نانا كوامي أدجي برينيه…) الذين أرَّقَتْهُم قضيةُ السودِ، آبائِهِمْ وأجْدادِهِمْ، ومعاناتُهُمُ القاسيةُ طَوالَ التاريخِ البشري، وإنْ لم تُقاسِ الكاتبةُ بقدْرِ ما عاناهُ الآخرونَ من بَني جِلْدَتِها، لأنَّها فتحتْ عينيها الصغيرتين على وطنها، لا على بلد سواهُ، فتشبَّعتْ بثقافتِهِ ومُقَوِّماتِهِ الاجتماعيةِ والثقافيةِ والوطنيةِ . وحتى عندما رحلتْ عنه إلى أمريكا، ظلَّ يسكُنُ وِجْدانَها وكِيانَها، لا يُفارقُها قَيْدَ أُنْمُلةٍ ! وهذه المعاناةُ التي تُباشِرُها يا جْياسي في نصوصِها الروائيةِ، ستمتدُّ إلى عصرنا الحاضر، بل ما زلنا نكتوي بشراراتِها، لحدِّ الآنَ، بين الفينة والأخرى، كأنَّها تأبى أنْ تنمحِيَ من الحياة . بمعنى آخرَ، أنَّ الأديبَ الحقيقي، هو الذي يُعالِجُ القضايا الكبرى، التي تتفرَّع عنها القضايا الصغرى، فلولا الأولى، لما كانتِ الثانيةُ؛ فالقتل العمد، والتمييز في العمل، والحرمانُ من الحقوق الطبيعية المكفولة لكل إنسانٍ، بغضِّ النظر عن لونِهِ وجنسِهِ ولغتِهِ وعقيدتِهِ… كلُّها نتيجةُ التمييز العنصري . غير أنَّ المشكلةَ لا تنحصِرُ في هذا التمييزِ فقط، إنما تتولَّدُ عنهُ مشاكلُ نفسيةٌ وعقليةٌ واجتماعيةٌ وإنسانيةٌ، تزيد في الطين بَلَّةً . فهناك من لا يستطيعُ أنْ يتحمَّل هذا السلوكَ العنصري، فيغوصُ في الإدمانِ، لينسى عذاباتِهِ التي تحفر شرْخا عميقا في ذاتِهِ، أو يقترفُ جرائمَ فظيعةً، انتقاما من الآخر، أو يُقبلُ على الانتحار، كي يتخلصَ من الحياةِ التي يظنُّها لمْ تُنْصِفْهُ، أو يشحن نفسَهُ، فيُراكِم فيها إحساساتِهِ بالدونيةِ والخيبةِ والفشلِ، ثم ينفجر ثائرا هائجا على مجتمعِهِ، ويترجم كلَّ تلك المعاناةِ اغتيالاتٍ وعُنْفا وإرهابا!…وهناك، أيضا، من يرضى بوضعِهِ المؤلِمِ، فينكمش، وينطوي على نفسِهِ، فيلوذ بالطقوس الدينِيةِ والغيبياتِ، عَلَّهُ يُلْفيَ فيها المَلاذَ والسكينةَ، والراحةَ النفسيةَ الأمينةَ، التي ينشُدُها منذ طفولتِهِ…! كلُّ هذه القضايا، الناتجةِ عن التمييز العنصري، تؤلِّف لُحْمةَ وسَدى المضامينِ الفكريةِ لأعمالِ (يا جياسي) الروائية . لكنها لا تبسُطُها كلَّ البَسْطِ كقضايا اجتماعيةٍ إنسانية، إنما تغلِّفُها بما هو ثقافي، وما هو عقائدي، وما هو علمي، وما هو تاريخي…أي تتناولُها من زوايا مختلفةٍ ومتنوعةٍ، حتى تتكوَّنَ لدى المتلقي رؤيةٌ عامةٌ ! وعندما نُعَنْوِنُ هذه القراءةَ ب(سخريةِ المفارقةِ) فإننا لا نقصد الضحكَ بذاتِهِ، والسخريةَ بعينِها، أي الاستخفاف والاستهزاء بالغير، إنما نتوخَّى الحياةَ في دَهْشَتِنا وتَعَجُّبِنا من أحداثِها ووقائعِها ومُفاجَآتِها، وفي تعريتِها وتشْهيرِها بحالاتِها الملفتة، التي تتركُ وقْعًا وأثَرًا بليغين في النفسية، عِلْمًا بأنَّ المفارقةَ في سخريتِها، هي النُّكْهةُ التي تُضْفي على النصِّ مذاقا أدبيا مُسْتساغا، أو كما قال الروائي والناقد أناتول فرانس إنَّ: (عالمًا بلا مفارقةٍ يشبه غابةً بلا طيور) ! فالمفارقةُ بهذا المعنى، تجسد الحالةَ في صورتين متناقضتين ومتضادتين، ليعيَ المتلقي الفرقَ بينهما، بما تُحْدِثُهُ من دَهْشةٍ وذُهولٍ وانبهارٍ شديدٍ، وإنْ كان الطبيبُ النمساوي سيجموند فرويد يعتبرها ((قريبةً من النكتةِ) لأنها في رأيه تجعل صاحبَها يشعر ب(اللذةِ والمتعةِ) فتحصلُ له (حالةٌ من التنفيس) ! وبالنسبة لكاتبتنا يا جياسي، فإنَّ المفارقةَ تبدو جليةً في روايتِها ((العودة إلى الوطن)) بل من إلقاءِ النَّظرِ الأولِ على الغلاف، الذي يُجَسِّمُ شابتين، كُلا منهما تُدير ظَهْرَها للأخرى، وتنظر بعيدًا إلى الجهةِ المعاكسةِ، ما يُحيلُنا على رؤيتين مختلفتين، ومصيرين مغايرين، وحياتين متباعدتين، لكنّ دهشتَنا ستحتدُّ أكثرَ، حين نعلمُ أنَّهُما أختان، ما كان لهما بأنْ يكونا متباعدتين، وهنا تَكْمُنُ المُفارقةُ الصَّارخةُ ! إنَّ (إيفيا) و(إيسي) أختان غير شقيقتين، ولدتا في قريتين غانيتين، وكل منهما تجهلُ الأخرى . ولدتا في القرنِ الثامنَ عشرَ، الحقبةِ العصيبةِ التي شهِدَ فيها العالَمُ أكبرَ حركةٍ تجاريةٍ للعبيدِ، سواء في أوروبا، أو في أمريكا، أو في العالم العربي . فهذا النمط التجاري، كان قائمًا ونشيطًا في جميع أنحاء وأرجاء الأرض، على مدى عصورٍ سحيقةٍ . والأختانِ سقطتا ضحيةَ عمليةِ البيع والشراء والمساومة في البشر . إلا أنَّ الأولى، كانتْ محظوظةً، إذا شئنا أنْ نُحْسِنَ التعبيرَ، تزوَّجها ضابطٌ بريطاني حَكيمٌ، فقرَّرَ أنْ يُعيدَ الثقةَ إلى نفسِها ليملِكَ مشاعِرَها وعواطفَها، وتمكَّنَ من ذلك فِعْلا . فاعتنى بها عنايةً فائقةً، وهي أحَبَّتْهُ لأنَّهُ، في الأخيرِ، قدرُها لا بُدَّ منه، وعاشتْ في كَنَفِهِ كريمةً، في قلعةِ (كيبْ كوستْ) وأنجبتْ منه أطفالا حملوا اسمَهُ، فألحقهُمْ بالمدرسة، ثم سَفَّرَهُمْ إلى الخارجِ ليكملوا تعليمَهُمْ في الجامعة، فدرسوا وحققوا نجاحا باهِرا، وعادوا إلى بلدِهِمْ ليُعَيَّنوا في مناصِبَ ساميةٍ وحَسَّاسةٍ في الأمبراطوريةِ (كانتْ قلعةُ كيبْ كوستْ، سجْنا وسوقا، تُنَظَّم فيها عملياتُ تجارة الرقيق، عبر المحيط الأطلسي في الحقبة الاستعمارية، وما زالتْ قائمةً لحدِّ اليوم، تُزارُ من قِبَلِ الكُتاب والصِّحافيين والحقوقيين والمؤرخين، ومنهم الكاتبة، التي تأثَّرتْ بتصميمِها الذي يخنُق الأنفاسَ، فألَّفتْ عنها مُتونا روائيةً عديدةً)! والثانية خالةُ الأطفالِ (إيسلي) ألقي القبضُ عليها في غارةٍ، شنَّها الجيشُ على قريتِها، فسجنوها في زنزانةِ النساء الإماءِ بالقلعةِ نفسِها، دونَ أنْ تدْريَ كلٌّ منهما أنَّها أُخْتٌ للأخرى، ولا الأطفالُ بوجود خالتهِمْ معهم في القلعة، إلى أنْ بيعتْ في سوق العبيدِ، ك(أَمَةٍ) ثم شُحِنَتْ على مَتْنِ زَورقٍ مُتَّجِهٍ إلى أمريكا . ومن هذه النقطة، ستبدأ معاناةُ السودِ، ذكورا وإناثا، تمتدُّ ثلاثةَ قرونٍ كاملةٍ، من الحروبِ في غانا، إلى الحروب الأهليةِ في أمريكا، إلى العذابِ الأليم في مناجِمِ الْفَحْمِ بجنوبِها، إلى الهجرةِ الكبرى في القرن العشرين، التي تفجَّرتْ عنها حقوقُ السود المهضومةُ…وتنتهي بأقرباء بعيدين، لن يعرفوا أبدًا أنهم يشتركون في جدهم الأول ! وينطلق السردُ التاريخي في صورتِهِ الأدبيةِ، عبر فصولِها بتتبُّعِ شخصياتٍ، كلٌّ منها تروي عن معاناتِها بضمير المتكلم، كأنَّها (سيرٌ ذاتيةٌ) وفي الحين نفسه، تأريخٌ لعصور من العبوديةِ!..تقول الكاتبة عن هذه القلعة، ومنها تبدأ المفارقة: (تزوجتْ نساءٌ من جنود بريطانيين متمركزين هناك، واحتُفِظ ببعضهنَّ في زنزاناتٍ..هذا التجاورُ بين الجلالةِ في الطابق العلوي، مع السَّفالةِ واليأس في الطابق السفلي، أذهلني حقًّا . أدهشني أن هناك نساء في الطابق العلوي، ربما لم يفهمن أو يدركن ما كان يجري تحتهنَّ) ! بذلك، سيتمُّ فصلُ البعضُ (رجالا وأطفالا ونساء) قسرًا عن أوطانِهِمْ، وعائلاتِهِمْ وثقافاتِهِمْ ولُغاتِهِمْ وعاداتِهِمْ…ليُلْقى بِهِمْ في أوطانٍ غريبةٍ، لا علاقةَ جسدية ونفسية وعقلية وثقافية لهم بها، أي يُحْرَمون من حقوقِ المواطنةِ الحقَّةِ ! فكأنَّ الكاتبةَ بهذه المفارقةِ، تؤكد ما ذهب إليه الكثير من المفكرين، بأنَّ الذي يتباهى بتقدُّمِهِ ورُقِيهِ العلمي والحضاري، ليس عبقريا، والآخر الذي يرتعُ في حَمَأةِ الجهلِ والتخلُّفِ ليس غبيا، والدليل أنَّ هؤلاء الأطفالَ الأفارقةَ، استطاعوا أنْ يقودوا أمبراطوريةً، هم وأمُّهُمْ، لأنَّهُمْ وجدوا من يأخذُ بأيديهم، وفي وطنهِمْ، بينما خالتهم ستسلك مساربَ ومتاهاتٍ لا قرارَ لها . وهكذا بالنسبة لكافةِ شعوبِ وأممِ دولِ الجنوبِ، التي ما زالتْ ترنو إلى تحقيقِ آمالِها وطموحاتِها في الرقي والتطور…! والكاتبةُ، لا تضعُ المسؤوليةَ كاملةً على كاهِلِ الغازي المُستعْمِرِ، وإنْ كان يملكُ كلَّ الأوراقِ بين يديه، فهناك دور متواطئٌ، لعبه غانيون جَشِعون في عَرْضِ شعبهم كسلعةٍ وبضاعةٍ في سوق النِّخاسةِ، ما أدى إلى (فقدانِ الهوية والانتماء والكرامة الإنسانية في المجتمع) تقول يا جياسي! .. وإذا سألناها مستغربين: ما الذي يدفعكِ إلى الكتابةِ عن العبوديةِ، التي شهِدها العالم قبل أجيال، ولم يعدْ منها إلا الصدى، يتردد هنا وهناك، ونقصد بعضَ الحالاتِ الفرديةِ ؟! تردُّ يا جياسي: (ما نراه في العصر الحاضر من تجاوزات لا إنسانية، له علاقة بكل تلك اللحظاتِ التي لم تلتئمْ في تاريخنا)!..ومفارقةٌ أخرى في كتاباتِها، هي أنَّها لم تعانِ كثيرا أو يسيرا من هذه العنصريةِ والتمييزِ والعبوديةِ، كما ذكرنا آنفا، فما الذي أيقظ فيها هذا الشعورَ القومي الإنساني ؟! يبدو من تأمُّلِنا في نصوصِها الروائيةِ، أنَّها لم تُعالجِ موضوعةَ العنصريةِ بتلك الحِدَّةِ التي نلحَظُها في كتاباتِ آخرين . رُبَّما لأنَّها أمضتْ طفولَتَها الأولى في غانا، بين والدين واعيين، فالأب كان أستاذا للأدب، ووالدتها ممرضةً، ثم انتقلتْ أسرتُها برغبتِها ومَحْضِ إرادتِها إلى أمريكا لتستقرَّ هناك. والأهَمُّ أنَّ والديها: (غرسا فينا تراثَنا…)! وتُرْدِفُ قائلةً : (كنتُ أذهبُ إلى المدرسةِ، وأختبرُ العاداتِ والثقافةَ الأمريكيةَ، ولَمَّا أعودُ إلى بيتنا، ألقاهُ غينيا بشكلٍ جليٍّ..لقد أحببتُ الاختلافَ) ! (كنتُ دائمًا قارئةً نَهِمةً، ولأننا كنا نتنقل كثيرًا، كانتِ الكتبُ ترافقني، فصارتْ (خيرَ جليسٍ لي) إذ لم أتمكنْ من تكوين صداقاتٍ . كان أول كتابِ كلفتْني بقراءتِهِ معلمتي في الفصل، من تأليف (امرأة سوداء) وكان له تأثيرٌ كبيرٌ عليَّ . كنتُ أرى في الكاتبةِ (شخصًا يشبهني) ويكتب عن (أشخاصٍ مثلي) ! أسررت في نفسي: أستطيع أن أؤدِّيَ هذه المهمةَ الشَّاقَّةَ بشكلٍ جيدٍ.. وكذلك فعلتُ). أشَرْنا سابقًا إلى أنَّ التمييزَ يُوَلِّد مشاكلَ بين الشَّخْصِ وذاتِهِ، وسردْنا أهَمَّها . وفي الروايةِ الثانيةِ ل(يا جياسي) المعنونةِ ب(المملكة المتعالية) نقتفي آثارَ شابٍّ من السودِ، لم يتقبَّل العيشَ في مجتمعٍ تنخُرُ نسيجَهُ العنصريةُ . ورغم أنه كان يمتلك إرادةً قويةً في تحقيقِ ذاتِهِ، إذ كان رياضيا موهوبا، منذ التحاقِهِ بالسلكِ الثانوي، فإنه أدْمَنَ على تناوُلِ المخدراتِ، وبجُرْعةٍ إضافيةٍ، وضع حَدًّا لحياتِهِ . لكنَّ المشكلَ لم يَنْتَهِ بوفاتهِ، فقد حاولتْ والدتُهُ الانتحارَ، إثْرَ رحيلِهِ القاسي عنها، ورحيلِ زوجِها كذلك . ولم تجدْ ابنتُها (جيفتي) بُدًّا من السَّهَرِ عليها، لتضْميدِ جراحاتِها النفسيةِ، فهي طالبةٌ في سلك الدكتوراه، شعبة (علم الأعصاب) بكليةِ الطبِّ، وتركز في بحثِها على دراسةِ (أدمغةِ الجُرْذانِ) فأتى هذا الظرف الطارئُ مواتيا لتُجْرِيَ تجربةً في مُخْتبرِها، تكتشفُ فيها الأساسَ العلمي ل(معاناةِ) والدتِها ول(وفاة) شَقيقِها الأكبرِ، وتقارن بين تحمُّلِ الإنسانِ لمشاكِلِهِ، وتحمُّلِ الجُرْذانِ لثقلِ رافعةٍ . فلم يعُدِ المشكلُ في التمييز، والشعور بالتهميش، إنما هناك عاملٌ آخرُ، أودى بحياةِ أخيها، وأسقط أُمَّها المسنةَ فريسةً للهواجس والآلام النفسية، والحزنِ الْمُمِضِّ ونوبةِ الاكتئابِ . غير أنَّ بحثَها العلمي، هو نفسُهُ، لم يقدِّمْ لها حلا، فانتقلتْ إلى النزعة الروحية، التي لا يشعر بِها الإنسانُ إلا في (المملكة المتعالية) أو (المتوارية) عن الأنظار، أي (المملكة الروحانية)..وهنا، ستَلْقى نفسَها حائرةً بين ثلاثِ سُبُلٍ..أيُّها أجدى للإنسانِ الذي يعاني من آثار التمييزِ : الحل الاجتماعي، أم العلمي، أم الروحي؟!.. لكنْ، ما الذي يجعلَها تلجأ إلى الحل الروحي؟!..لقد تذكرتْ طفولتَها الأولى، التي أمضتْها في أجواءٍ روحانيةٍ بين أفرادِ عائلتِها الغينيةِ، فلم يجدوا، وهُمُ الغرباءُ في هذا العالم الجديد، سوى اللجوء إلى الدَّرْوشَةِ، التي تغمُر أفئدتَهُمْ بالصبرِ والزُّهْدِ والطَّيبوبةِ! في الأخير، ستتخلصُ من هذا التردُّدِ، لتصِلَ إلى نتيجَةٍ، ألا وهي أنَّ هناك توافُقًا بين العلمِ والروحِ والثقافة الاجتماعيةِ، وأنَّ الاكتفاءَ بإحدى هذه السُّبُلِ، سيُخِلُّ بالتوازنِ النفسي والعقلي للإنسانِ، لأنَّ كُلا منها يُكَمِّلُ نَقْصَ الآخر . فلكي لا تغدو الروحانيةُ ممارساتٍ غيبيةً، لا بُدَّ من العلم، وهو نفسُهُ في حاجةٍ ماسَّةٍ لَها، كي لا تتكلَّسَ النفسُ، فتفقدَ بوصلتَها! إن القارئ لأعمالِ (يا جيلسي) الروائيةِ والقصصيةِ معا، يخلص إلى أن الكاتبةَ من الجيلِ الجديدِ، الذي هاجر إلى أمريكا، وبقي متشبثا بإفريقيته، بكل ما تتضمنه من عاداتٍ وتقاليد وثقافاتٍ ولغاتٍ، ولم يتخل عنها، بالرغم من اندماجِهِ في المجتمع الأمريكي المنفتح. كما أن كتاباتِهِ (أعني الجيل الجديد) ما زالت تترصد عصور العبوديةِ، ولم تتخلص من الإرثِ المعقدِ لها، ومن الأضرار العاطفية التي خلفتها عبر قرونٍ طويلةٍ . ويا جياسي، لا تكتفي بتشريح تلك الأضرارِ على مدى التاريخ، إنما تستقي من ذاتِها، أو من إحساساتِها العميقةِ، لأنها في النهايةِ، تكتب سيرتها الذاتيةَ، كشابةٍ إفريقيةٍ (كان لدي دائما شيء لإثباتِهِ) شيء ما يغلي في صدرِها، وإن لم يمسها في حياتِها، وعاشت بعيدا عنه، شيء حيرها، ما جعلها تدور دوراتٍ (حلزونية) من العلم إلى الإيمانِ إلى الحب إلى الكراهيةِ…بحثا عن السبيل لحل مشكلة الوجود في العالم!