بعد وقوع انفجار المرفإ، أصبحت تانيا تخشى البقاء وحدها، وظنت كارلا على مدى أيام أن حربا ستندلع… بالنسبة إلى اللبنانيين الذين نجوا من الانفجار المرو ع، لا تزال الصدمة عنيفة وسيكون صعبا على كثيرين تجاوزها. وفي بلد أدمته منذ عقود الحروب والاغتيالات والتفجيرات، أعادت الفاجعة التي أوقعت 171 قتيلا وأكثر من ستة آلاف جريح ودمارا غير مسبوق، إحياء جراحات الماضي مترافقة مع شعور أقوى باليأس والعجز. وكانت كارلا (28 عاما) تقف على شرفة منزلها في منطقة الجعيتاوي في شرق بيروت عندما بدأ كل شيء يهتز من حولها، ثم دوى الانفجار الضخم الذي أطاح بزجاج نوافذها. وتقول "اعتقدت أنها غارة جوية، ذكرني دوي الانفجار بما عشته خلال حرب العام 2006″، بين حزب الله وإسرائيل. وهرعت كارلا إلى سلم المبنى، كما كانت تفعل مع كل غارة جوية خلال الحرب، فتحت جارتها الباب وجرفت باتجاهها بالمكنسة الزجاج المتناثر في منزلها. وتضيف كارلا "كانت هذه إحدى ردات الفعل خلال الحرب. حين ينكسر شيء ما، نكنسه". وعاش لبنان بين 1975 و1990 حربا أهلية مدمرة، ثم سلسلة أزمات وتفجيرات واغتيالات أبرزها اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري في 2005، وحوادث أمنية عديدة داخلية وعلى الحدود مع إسرائيل. وترفض كارلا اليوم العودة إلى شقتها، مفضلة البقاء في منزل والديها وإن كانت لا تستطيع النوم ليلا. وتقول "حين تمر سيارة في الشارع، أول ما يخطر في بالي أن طائرة تحلق في الأجواء". وتضيف "كل شيء يعيدني إلى ذكريات الحرب. لم أكن أعرف إلى أي درجة أثرت بي". ومنذ أيام، يتنقل فريق من منظمة "أطباء بلا حدود" الدولية من منزل إلى آخر لتقديم الدعم النفسي لعائلات منطقة الكرنتينا المتضررة والقريبة من مرفإ بيروت. وتقول مديرة برنامج الصحة النفسية في المنظمة نويل جوان لفرانس برس "نحاول أن نحثهم على التنفيس عن غضبهم والتعبير عن مشاعرهم". وتضيف "حين يتكلمون يقولون لنا إنهم شعروا بالارتياح.. بعد إخراج كل الغضب داخلهم، وكأنهم عبارة عن كوب ممتلئ يفرغ شيئا فشيئا من محتواه". ولم يستفق اللبنانيون بعد من هول التفجير الضخم الذي ضرب الثلاثاء المرفإ وأودى بحياة 171 شخصا وإصابة أكثر من 6500 آخرين، وألحق دمارا في أجزاء كبيرة من بيروت، وصولا إلى الضواحي. ويخيم الحزن على شوارع بيروت المنكوبة وسكانها والعابرين فيها. ولا يتمكن كثر من حبس دموعهم من شدة التأثر والحزن أثناء تجولهم أو قيادة سياراتهم. وعند مدخل حي مار مخايل، يقفز رجل عجوز من مكانه حين يسمع صوتا ناجما ببساطة عن مطرقة عامل. ويضع رأسه بين يديه ويختبىء خلف سيارة قبل أن يطمئنه أحد المارة بالقول "لا شيء هناك". وبعد يومين من وقوع التفجير، تداولت وسائل إعلام تقارير عن اندلاع حريق في المرفإ، فعمت الفوضى بين السكان والمتطوعين الذين كانوا يساعدون على تنظيف المنطقة، وبدأ البعض بالركض في كل اتجاه، وسرت إشاعات مفادها أن القوى الأمنية ستعمل على إخلاء المنطقة. ولكن في النهاية، لم يحصل أي شيء. وفي مقهى في شارع الحمرا فر غرب العاصمة، تسأل زبونة النادل سؤالا بات يتكرر على لسان كثر: ماذا كنت تفعل بعيد الساعة السادسة من الثلاثاء الرابع من غشت، أي لحظة وقوع الانفجار؟ وتقول مديرة الأنشطة في "أطباء بلا حدود" ريما مكي لفرانس برس "لا يجب أن ننسى أن هذا حصل في وقت كان المجتمع اللبناني يتعرض أساسا لضغوط نفسية"، جراء الانهيار الاقتصادي من جهة وانتشار فيروس كورونا المستجد من جهة ثانية. وتضيف "من الطبيعي جدا أن تكون لحادثة صادمة بهذا الشكل تداعيات" سريعة، مشيرة إلى أن ردود الأفعال وحدتها تختلف بين شخص وآخر وقد تتجلى بالذعر أو البكاء أو حتى الانقطاع عن الواقع. وتقول تانيا (32 عاما) من جهتها إنها كانت تتجول في أسواق وسط البلد حين وقع الانفجار. وتضيف الوالدة لطفلين لفرانس برس عبر الهاتف "بكيت بشكل متواصل في أول يومين. كنت أسأل نفسي: لماذا تبكين؟ عائلتك بخير". فأجيب "لكن آخرين ماتوا". وتوضح "كأنني كنت أشعر بالذنب لأني ببساطة نجوت بحياتي". ولا تتذكر تانيا بوضوح ما حصل حين وقع الانفجار، إلا أنها تحتفظ بكدمات زرقاء على جسدها نتيجة إصابتها. ولا تستطيع الشابة اليوم أن تبقى وحدها. وتقول "الصباح يمر بسهولة أكثر، أما خلال الليل فلا أستطيع أبدا البقاء وحدي". وتجفل تانيا مع كل صوت مرتفع حتى أنها باتت تخشى الاقتراب من الأبواب والنوافذ. وتقول الشابة التي انتقلت إلى منزل عائلتها في منطقة البقاع في شرق لبنان "حين أفتح النافذة، أخشى أن ينفجر الزجاج في وجهي". وأما عمر فتطارده منذ وقوع الانفجار فكرة واحدة مفادها أنه لو كان بقي في منزله لكان مات أو تشوه. وعاد عمر بعد ساعتين على وقوع الانفجار إلى منزله. ويقول الشاب الثلاثيني "طارت السكاكين من مكانها، وانفجرت النوافذ في كل أنحاء المنزل". ويتساءل الشاب الذي فقد شخصين من معارفه في الكارثة، "لا أعرف كيف يمكن لأحد أن يتخطى شيئا كهذا". ويضيف "نواصل حياتنا، ولكننا نفعل ذلك بطريقة مختلفة".