شروخ الأيام خلف النافذة المشرعة على الدوام يقبع عباس، يقارع الحياة في صمت، في حزن، في تبرم، يعيش أرذل العمر. وحيد لا أنيس له غير كتبه التي قرأها عدة مرات حتى سئم القراءة وعاف الكتب. عباس يعرف ما تختزله ذاكرته من مواقف سلبية وإيجابية. يتذكر ذلك بدقة متناهية، وأحيانا ينسى أو يتذكر بعض الأجزاء أو المواقف فقط ولكنها رغم عدم ترابطها فإنه من خلالها يحاول قراءة طفولته من جديد. تمر حياته رتيبة بطيئة كساعة الحائط التي ورثها عباس عن والده .نظر إليها ذات صباح، أمعن فيها النظر، وجد أنها تعطلت. أحس كأن الزمان توقف من حوله. عطلها ينذر بقرب أحله هو الآخر. الساعة الحائطية لم تتوقف منذ سنوات وأعوام. يحتضن الحزن والحزن يحتضنه. أطل من النافذة ليتصل بالعالم الخارجي الذي لايربطه به إلا هذه النافذة. يستشف غليان الشارع ونغل المارة في هيط وميط. يشتم الهواء قليلا ثم يقصد الفراش وهو يسعل. لم يزره أحد، حتى الخادمة لاتزيد عن كلمة السلام عليكم عند القدوم، ومع السلامة عند الإياب. تقضي أغراضه المنزلية، وتهيئ طعامه البسيط الريجيمي وتضعه في الثلاجة، ثم تنصرف تجر خلفها مؤخرتها في نخوة وغنج. صبيان يلهون تحت النافذة المشرعة يثرثرون، يكتبون بالطبشور على الجدران وعلى جدع شجرة الكستناء الوحيدة التي تغطي ساحة الزقاق. تحكي كل يوم عن هموم أهل الحي ومشاكلهم. عاشت أفراحهم وأتراحهم. هي الوحيدة التي صمدت في وجه الزمن كالشيخ عباس. غرسها عمال البلدية منذ سنوات يوم كانت البلدية تهتم بالأشجار.أطفال آخرون يجرون خلف كرة مطاطية. قذف أحدهم الكرة في اتجاه نافذة العجوز عن غير قصد محدثا رجة بين أرجاء البيت الغارق في هدوئه. تطلع من النافذة بعدما وضع نظارته السميكة على عينيه الذابلتين، واتكأ على عكازه. تفرق الأطفال قبل أن يصيح فيهم بصوته المشروخ. وبعد جهد جهيد أطل من النافذة، لم يجد أحدا، عاد إلى مصطبته لايلوي على شيء غير الصمت والصمت الرتيب المفعم بنكهة الوحشة والوحدة، وعاد الهدوء القاتل إلى المنزل مرة أخرى. ختان المعطي سحب بيضاء في كبد السماء تدغدغها رياح خفيفة دافئة، بيوت منتصبة هنا وهناك بين الحقول المخضرة، ترسم على جبين الطبيعة بلون أخضر وأبيض بياض السحب لوحة تشكيلية رائعة، صبية يمرحون ويلعبون بفرحة عارمة، نسوة يها من بعيد تقصد بيت علال المزابي بأناقة ونخوة كبيرين، بعض الأقارب يدخلون ويخرجون من المنزل ذي القرميد الأحمر، خيمة كبيرة نصبت تحت شجرة الصفصاف، كلاب لاتحسن كرم الضيافة تنبح بجانب بيدر التبن احتجاجا على قدوم وفود الزوار بكثرة غير مألوفة لديهم، لبيت علال زغاريد متقطعة تكسر صمت الدوار ورتابته، يرد عليها من بعيد دوي محرك لسقي فدان الخضر، رجال تجمهروا أمام الخيمة ينتظرون قدوم السيد عبد الله الحجام لختان المعطي الذي دخل سنته الثالثة، أقبل المزين ممتطيا دراجته النارية الصفراء، عند قدومه تعالت الزغاريد ودقات التعاريج، والنسوة ترددن: (الحجام الله يهديك، ولدي بين يديك). وتمايلت سنابل القمح وأشجار البساتين من تين وليمون وتفاح في غنج وكبرياء، تداعبها نسمات الربيع، وأمام الخيمة الكبيرة أطلق الفرسان من بنادقهم طلقات البارود وهم في نخوة وأنفة على صهوات جيادهم تعبيرا عن فرحتهم بختان المعطي. ارتدى علال أحسن جلبابه، وارتدت زوجته فاطنة أجمل فساتينها، وتزينت بالحلي الفضية والذهبية التي ورثت أغلبها عن والدتها، وحملت المعطي على ظهرها والنساء من حولها تزغردن جريا على عادة أهل الدوار قبل الختان. قدم للسيد عبد الله الحجام ديك بلدي أحمر قبل الشروع في عملية إعدار المعطي، كما قدمت له قصعة من الخزف أثناء عملية الختان. المعطي هو آخر العنقود طفل مدلل من طرف والده لذلك لم يرغب علال في الحضور أثناء الإعدار حتى لايسمع ابنه يبكي، وجلس تحت شجرة الصفصاف واكتفى بإنابة فردين من أصهاره بمساعدة الحلاق، وتقديم قالب من السكر كما نفحوه ببعض النقود. أما المعطي فقد بكى وولول كثيرا لكنه لم يستمع لبكائه أحد إلا من بعض النساء اللواتي كن يمطرنه بقطع من الدراهم وضعتها أمه في طربوشه الأحمر، وجلست بجانبه تهدئ من روعه وبكائه، وتنش عنه بمنديل أبيض لتخفف من ألمه. وفي خارج المنزل تحت الخيمة الكبيرة قدمت أصناف الأطعمة للضيوف، ورتل فقهاء الدوار أحزابا من القران الكريم.