إشكالية تدبير الفضاء العام بعد كوفيد 19 1 مسؤولية المدبر السياسي إن كل ما هو حاصل ويحصل يوميا في العالم بأسره من أوبئة فتاكة وأمراض معدية ومن كوارث طبيعية: (إعصارات، فيضانات، جفاف، زلازل.. هي شرور بالنسبة للإنسان، لكنها تعري الكثير من النواقص والأعطاب التي كانت تعاني منها المدن والدول المتضررة بها والتي مصدرها، بصفة عامة، الإنسان نفسه، الإنسان المدبر للشأن العام أو السياسي في هذه المدينة أو تلك، أو هذه الدولة أو تلك .حيث تكون الجائحة أو الأزمة، وما بعدها، مناسبة لتقييم مخططاته بل ومحاكمتها، لكونها مخططات وتصورات في المجمل آنية قصيرة المدى وليست استباقية وتوقعية وعلى المدى البعيد. ولنا في العالم بأسره ويوميا الأمثلة التي تشهد بصحة هذه الفكرة . إن الإنسان الحقيقي هو الذي يستفيد من تجاربه وتجارب الآخرين ومن محنهم، والذي يخطط على المدى البعيد في كل مجالات الحياة. في تصميم المدن والطرق والمسالك والمواصلات والاقتصاد والماء والبيئة والتعليم والصحة والبحث العلمي الخ … . إن الذي يؤكد صدقية هذا الرأي هو محنة جائحة كوفيد 19، فقد أبانت، وفي العالم بأسره، عن أعطاب كثيرة في واقع حال المدن والدول، وعن هشاشة ملفتة للنظر في عدة مجالات: في المنظومة الاقتصادية والإنتاجية: (توقف الإنتاج جزئيا أو كليا أو تباطؤه بفعل إغلاق المعامل والمحلات التجارية والخدماتية وتوقف حركة النقل العمومي أو تباطؤها (القطارات والحافلات والطائرات والبواخر…) كما أبانت عن هشاشة المنظومة الصحية في الكثير من الدول: ضعف الطاقة الاستيعابية للمستشفيات للحالات الحرجة نتيجة كوفيد 19، ونقص أو فقر في التجهيزات الضرورية للحالات المستعجلة الخطيرة في غياب علاج فعال ضد الفيروس. بل غياب الكمامات أو نذرتها بما هي أبسط وسائل الوقاية من انتشار الفيروس أو العدوى. وهذا الأمر هو الذي عانت منه الأمرين حتى بعض الدول العظمى في الغرب. كما أبانت عن هشاشة المنظومة التعليمية والتكوينية وخاصة في كيفية تدبير التدريس عن بعد ومحدوديتها بفعل عوامل لوجستيكية وأخرى موضوعية وذاتية خاصة بكل بلد على حدة . ولما كان الإنسان في هذه الدول والبلدان هو المسؤول عن حاله أو وضعه، علما أن المسؤولية الأولى تقع على المدبر السياسي كل في مجاله في مقابل الغالبية الساحقة من الناس المتضررة ضحية التدبير الفاسد. والنتيجة هي هذه المشاكل النفسية والاجتماعية والاقتصادية في ظل الجائحة في علاقة الإنسان بذاته وبالآخرين، وفي مقدمتهم من يشاركهم الحجر اليومي، خاصة وأن لكل شخص مشاكله الخاصة، ولكل فئة عمرية مشاكلها ومطالبها أو احتياجاتها الخاصة ومخاوفها كذلك. إذا انطلقنا من هذا المبدأ العام يتبين لنا أن المغرب يعمه ما يعم كل دول العالم بفعل تأثير جائحة كوفيد 19، مع فارق الخصوصية ودرجات التأثير وانعكاساتها السلبية التي يتحكم فيها ما يميز كل بلد على حدة ونظام التدبير فيه . فالشر واحد في العالم كله لكن تأثيره وعواقبه أو نتائجه هي بحسب اختلاف البلدان أو بحسب درجة مناعة هذا الجسم البلد أو ذاك. لذلك تفرض المواطنة الحقة والمسؤولية التحليل للظاهرة من أجل استخلاص العبر. 2 من أجل فهم الظاهرة استبعاد لغة الخشب لهذه الغاية يلزم المساهمة في النقاش الدائر اليوم حول الدروس التي يمكن استخلاصها من محنة هذه الجائحة للمساهمة في بناء غد أفضل لبلادنا من خلال الاستفادة من مما هو حاصل الآن وما قد يحصل غدا. إن غاية التشريح هي الفهم الصحيح، فهم ما وقع وماذا يلزم فعله مستقبلا. فغاية النظر أو الفحص إيجابية، وليست سلبية تبخيس عمل الفاعلين السياسيين أو المدبرين المباشرين للشأن العام في المدن من خلال نبذ لغة الخشب، ولغة المديح لأنه “سهل ومريح لكنه يضر”.. كما قال الشاعر المصري. إن الجائحة قد عرت على واقع المدينة في بلادنا. مدينة أو مدن تعاني الكثير من الآفات والأعطاب وأبرزته بشكل جلي. 3 ظاهرة الاقتصاد الغير مهيكل تخدش صورة المدينة ما هو هذا الواقع؟ وما هي تجلياته؟ واقع مركب معقد متداخل الأبعاد .أركز فيه على بعد واحد هو ظاهرة الاقتصاد الغير مهيكل أو القطاع التجاري غير المنظم في المدينة . هو بدوره مكون من أبعاد متعددة، وظاهرة مركبة معقدة. من أجل رصد ملامحها وكيف تعامل مدبرها الفاعل السياسي في المدينة ومن أجل تقاسم الحلول التي نقترحها . من تجليات الظاهرة الباعة المتجولون أو الفراشة الذين يؤثثون الشوارع الكبرى في المدن ويعرضون سلعهم في جنبات ومداخل التجمعات السكنية والساحات العامة ويحتلون الأرصفة المخصصة للراجلين بل لم تسلم من الظاهرة حتى بعض المناطق الخضراء على قلتها في المدن . وعلى راس هذه الفئة بائعو الخضر والفواكه والأسماك …وضع شاد غير طبيعي لأنه احتلال سافر للملك العام الذي صار هو القاعدة في مدننا وصار الاستثناء نادرا إن لم يكن هو المعدم معدوما. بل وصلت الفوضى في الكثير من المدن إلى حد أن هذه الفئة بنشاطها أغلقت الطرق والشوارع في وجه المارة والعربات وحرمت الراجلين من الأرصفة فكان من نتائجها هذه الفوضى العارمة التي تشوهت وتشوه صورة المدينة عليها “ندوب وتجاعيد وبثور” مزعجة لساكنتها وللزوار من الداخل والخارج .بحيث لم يعد هناك فرق بين صورة هذه المدينة وواقع القرية أو البادية، مع فارق أن البوادي تعرف أسواقا أسبوعية أي مرة واحدة في الأسبوع لكن صارت هذه الأسواق في مدننا يومية .فإذا كان فيها ربح بالنسبة للبعض ففيه مضرة كبيرة وخسارة للأغلبية الساحقة من الساكنة المحايثة لهذه التجمعات و التي تكتوي بنارها يوميا وخسارة لصورة المدينة نفسها .فالظاهرة مصدر تلوث بصري وسمعي ذي النتائج المدمرة على راحة وكرامة الإنسان وخاصة في هذه الفضاءات .وضع ما فتئت بعض منظمات المجتمع المدني تطالب بإيجاد حلول له . الى أن حلت الجائحة ، وظهر للمدبر السياسي، في المدينة، خطورة مثل هذه التجمعات الفوضوية أو الغير منظمة والتي يستعصي أحيانا ضبطها. بل قد تصبح مصدرا مباشرا لانتشار الفيروس .فتجندت لمنعها بإرجاع ما ضاع إلى الوضع الطبيعي الذي كان يلزم أن تكون عليه الشوارع والأزقة والفضاءات العامة التي استرجعت هدوءها متخلصة من الصخب واللغط وجماليتها بعد القبح وإنسانيتها بعد أن ضاعت في زحمة الاستغلال الفوضوي لها .وهو الوضع الجديد الذي استحسنته الساكنة والمواطنون عامة وباركته وعكسته الكثير من ردود الفعل عبر مواقع التواصل الاجتماعي. 4 البديل من أجل مدينة الغد يتحمل الفاعل السياسي مسؤوليته: فما الذي يلزم القيام به مستقبلا من أجل مدينة نظيفة جميلة؟ يلزم المسؤولون عدم التراجع عن هذا المكسب أو التراخي في الحفاظ عليه بعد رفع الحجر وزوال الجائحة . وتعميمه على باقي الفاعلين الاقتصاديين الذين دأبوا وتعودوا على احتلال الملك العمومي بدون سند قانوني . لكن الإشكال سيظل قائما ما لم نجد حلا للاقتصاد الغير مهيكل ولهذه الفئة العريضة من الناس التي تعيش منه . وهذه من بين أولويات التدبير السياسي وهي من بين أهم مسؤوليات الجماعات الترابية والمنتخبين من أجل إيجاد حلول تصون كرامة هذه الفئة وتضمن لهم شروط ممارسة تجارتهم في ظروف إنسانية كريمة من جهة، و ترجع الكرامة للراجلين و للحق في التبضع والتجوال في ظروف تحترم كرامتهم وإنسانيتهم. و بإرجاع الفضاءات العامة للمواطنين جميعا في مدينة جميلة مطمئنة هادئة تسر الناظرين. ولن يتم ذلك إلا بوضع تخطيطات للأسواق النموذجية أو أسواق القرب وإنجازها أو تنزيلها في الواقع لأنه الحل الوحيد للظاهرة المشينة .إلا ان المفارقة ستظل قائمة. لأن المدبرين السياسيين لمدننا وعلى رأسهم الجماعات المحلية لم يخصصوا لهذه الظاهرة ما تستحق من عناية بل قد استغلت في كثير من الأحيان لأسباب انتخابوية ضيقة وهذا الوضع يثير التساؤلات التالية : من المسؤول عن تشييد في مدننا أحياء برمتها وتجمعات سكنية كبيرة أحيانا بحجم مدن صغيرة في شكل تجمعات من العمارات والمساكن المستقلة أو من هذه مجتمعة في غياب المرافق الأساسية التي من المفروض أن تشترط في كل تهيئة لأي تجزئة سكنية ؟ من المسؤول عن تغييب أسواق القرب وملاعب القرب الرياضية ومناطق خضراء وأندية نسوية وثقافية ومؤسسات الخدمات العامة :مدارس عمومية ومستوصفات صحية ومراكز الأمن .؟ وبالتالي من المستفيد من هذه الوضعية أو حالة التسيب القصوى في الاستغلال الفاحش للملك العام ؟ بفعل هذا الخلل نبتت مدن في شكل قطع أسمنتية باردة شاحبة تفتقر لهذه المكونات الضرورية لحياة إنسانية كريمة . فصار هذا هو نفسه حال الإنسان فيها، إنسان معطوب يعاني، بل مريض. ولن يتعافى إلا إذا أعدنا للمدينة صحتها. ولن يتم ذلك إلا بتوفير هذه المرافق الضرورية من أجل إنسان المستقبل الذي يشعر بكرامته ويحب مجاله ويساهم في رعايته . مطلب ممكن تحققه ، وليس لا صعبا ولا مستحيلا إذا توفرت الإرادة السياسية الحقيقية أولا ، “عندما نريد نقدر”، والوعي الصحيح للمدبر السياسي ثانيا وتم تغليب المصلحة العامة العليا للبلاد على المنافع الفردية الآنية الانتخابوية الضيقة والشخصية والانتهازية التي ما فتئت تشكل العائق الحقيقي أمام تخطيط فضاءات المدينة المستقبلية. بقلم: د. محمد قشيقش أستاذ بالمدرسة العليا للأساتذة بمكناس