منذ اللقطة الأولى، مع انطباع العنوان على لقطة مقرّبة لفرو بنّي، يفصح “كلب” عن نبرة غير اعتيادية، تضعه في مكان بين تمرين الفيديو ووثائقي عالم الحيوان. موقع جريء كان، بلا شك، من بين أسباب فوز هذا الفيلم القصير، للمخرجة السويسرية المغربية (المُقيمة في كندا) حليمة الورديغي، ب”دب الكريستال” أفضل فيلم، وجائزة لجنة التحكيم الخاصة في فئة “جيل”، في الدورة 70 (20 فبراير 1 مارس 2020) ل”مهرجان برلين السينمائي الدولي”. للفيلم وازع إنساني صرف، يرتكز على حبكة بسيطة ظاهريا، تقتفي يوماً عادياً في ملجأ قروي يأوي مئات الكلاب، في “أكادير”. لكن، وكما في الأفلام الجيدة، يكمن الفرق في سؤال “كيف؟”، أكثر من “ماذا؟”. فالمخرجة تلتقط، بعين بونويلية (تأخذ مسافة سردية مع ما تراقبه، من دون إغفال شيء من تفاصيله) وضعيات تكثّف عيش الكلاب وتنظيمه، ليحيل إلى شرط عيش الإنسان في مخيمات اللاجئين. لا عجب إذن أن تثير الورديغي، في حوار معها، تأثير لوحة فيتز المزدوجة “كلاب متصارعة” عليها. فالواقعية المفرطة فقط بوسعها أن تفتح أعيننا من جديد على ما طبّعنا مع واقعيته في الأشرطة الوثائقية الاعتيادية ونشرات الأخبار. كيف نشأت فكرة الفيلم؟ وما قصّة لقائك مع ملجأ الكلاب؟ بدأ كلّ شيء بصورة شاهدتها على “فيسبوك” لميشيل أوسبرغر، مؤسّسة الملجأ. مئات كلاب الشوارع (التي أحبّها كثيراً) مجتمعةً معاً من دون مساحات فارغة بينها. شعرتُ كأنّي أرى لوحة، وكأنّ هذا غير ممكن وجوده فعلياً. مع ذلك، الأمر حقيقيّ جداً، والكلاب تنتظر التبنّي. بما أنّي مسكونة دائماً بشعور فوضى العالم الذي نعيش فيه، متسائلةً عمّا سيكون عليه مستقبلنا ومستقبل أطفالنا، ربطت الأمر ميكانيكياً بملايين النازحين، الذين يُعامَلون أسوأ من الكلاب في مخيمات سجون، بانتظار منحهم الحقّ في حياة كريمة، ومستقبلا لائق. ثمّ أصبحت المقارنة أوضح مع تقدّم العملية. أنصتّ إلى الرغبة السينمائية الصافية التي دفعتني نحو هذه الكلاب (فوراً، تكوّنت لديّ فكرة مشهد الافتتاح)، واتّبعت غريزتي في كل مرحلة من مراحل صنع الفيلم. عرفت مديرة الملجأ، ميشيل منذ 10 أعوام. التقيتها في مرحلة ما قبل إنتاج فيلمي القصير السابق، “مختار” (2010). يومها، ساعدتني في العثور على قطط اجتماعية للغاية، احتجت إليها لتصوير مشهد. ظللنا على اتصال دائم. احتجت كثيراً إلى نصيحتها لمساعدة كلب أو قطّة شوارع، عندما أكون في المغرب. كما أنّها نصحتني بخصوص إحضار كلبي البلدي، ميمونة، إلى مونتريال. لذلك، عندما أخبرتها عن مشروع “كلب”، وثقت بي، ووافقت فوراً على التصوير. موضوع الفيلم يدفع إلى التفكير في “مختار”، ومشهد الطفل الذي يداعب البومة. هناك حساسية تجاه عالم الحيوان تنبعث من الفيلمين. هل هذا شيء يخاطبك تحديداً؟ نعم، هذا صحيح. لكنّي لا أبحث بشكل واعٍ عن هذه المواضيع. هذه لقاءات غير متوقّعة. هناك بالفعل حساسية تجاه عالم الحيوان. كنتُ قريبة من الحيوانات منذ طفولتي. لديّ قصص كثيرة معها، إذْ كان عندي كثير منها في صغري. أردتُ أنْ أصبح طبيبة بيطرية. هناك شيء رائع مع الحيوانات، هو أنّ لا ازدواجية في شخصيتها وسلوكها. إذا كنتَ تعرفها قليلاً، فأنت تعرف ما يمكن توقّعه منها. يُمكن التنبّؤ بسلوكها، وهذا مُطمئن للغاية، خاصة بالنسبة إلى الطفل الذي كنته. بينما البشر، حتى لو كنّا نعرفهم جيداً، بإمكانهم التحايل علينا. هناك أيضاً حساسية بونويلية في الطريقة التي تنظرين بها إلى الحياة اليومية لمجتمع الكلاب. أشار لوي بونويل كثيراً إلى أنّه ينظر إلى البشر كما ينظر العالِم إلى تجمّعات الحشرات. كيف توصّلت إلى الفكرة الجريئة القاضية بمقاربة ملجأ الكلاب بهذه الطريقة؟ كما قلت، بدأت عقد الموازاة بطريقة غير واعية إلى حدٍّ ما في ذهني، ثم أصبحت أوضح بفضل الكلام مع فريقي. لكن، قبل كلّ شيء، هناك الفترة التي نعيشها، فهي التي أوحت بمعالجة الموضوع بهذه الطريقة. صُوَر الإعلام التي نراها لمخيمات اللاجئين هي أيضاً تلك التي رأيتها فوراً في الملجأ: الحبس، القويّ المهيمن على الضعيف، الحياة المعلّقة، تقنين الطعام، الأسلاك الشّائكة، غريزة البقاء، إلخ. أردتُ أيضاً إظهار مكامن الجمال التي لفتت نظري، وهذا كما أعتقد مصدر الأمل في الفيلم. يتميّز الفيلم بحبكة بسيطة وحكي مقتصد للغاية، ما يموضعه في مكان ما بين الفيلم الوثائقي وفنّ الفيديو. كيف استعددت للتصوير من وجهة النظر هذه؟ هل كان هناك نص مكتوب؟ وإنْ وُجد، كيف تطوّر؟ إنّه فيلم عفوي، صنعته مع أصدقاء على عجل، ومع كثير من الحرية. صوّرته في فبراير 2019، وعرض للمرّة الأولى في فبراير 2020 في مهرجان برلين. لم أعرف كيف سيكون الوضع، ولم أخشَ معرفة ذلك مع مديرة التّصوير آنّا كولي. صوّرنا 5 أيام. اليوم الأول مخصّص لاكتشاف الأماكن وروتين الكلاب. في المساء، تمّ تكييف لقطاتٍ تخيّلتها مسبقًا مع الواقع على الأرض. كرّرنا الطقوس نفسها يومياً باتّباع طقوس الكلاب، ما أعطانا انطباعاً بتكرار نفس يوم التصوير. في الواقع، كان هذا مثالياً للتعمّق في استكشاف موضوعنا. واصلنا طبعاً، أثناء المونتاج، اكتشاف الفيلم بكتابة هيكله وفق رتابة يوميات الملجأ، وعودتها الأبدية، عبر تبنّي إيقاع يبعث على التنويم المغناطيسي تقريباً. كان المونتاج مرحلة الخلق، حيث تمّ الجزء الأكبر من الكتابة. أراحني هذا النهج الاستكشافي للعملية الإبداعية كثيراً. شعرت بحرّية كبيرة في الإبداع بالانطلاق وفق فكرة معينة في ذهني، وترك السيرورة تشتغل على شكل الفيلم. من نقاط قوّة الفيلم تكوين الصورة. كيف فكرت في هذا الجانب مع مديرة التصوير؟ طلبتُ من آنّا كولي تجنّب تأطير الكلاب في وسط الصورة، كما لو كنّا نصنع وثائقياً تقليدياً عن الملجأ. أردتُ أن يرى المشاهدون الكلابَ بشكل مختلف، على أمل أن يحسّوا ويفكروا بأنفسهم في المتوازيات التي يريدون صنعها. رغبتُ في إعطاء قراءات عدّة محتملة، وفي طرح الأسئلة بدلاً من تقديم إجابات، مع حبّ وبساطة كبيرين. أردتُ أيضاً تسليط الضوء على جمال الكلاب وتعدّدها وشراستها في مكان ضيّق. أثناء الإعداد للفيلم، صادفتُ اللوحة المزدوجة “كلاب متصارعة” للنيويوركي دان فيتز، رسّام الواقعية المفرطة. هذا بالضبط ما كنتُ أفكّر فيه. فضّلتُ أنْ أنتهج لقطات ثابتة لمراقبة حركة الكلاب حولنا، من دون الإخلال بروتينها، عن طريق وضع الكاميرا في أماكن محدّدة. أردتُ أنْ يُشغل الفضاء مكاناً مهمّاً في اللقطة. جدران هذه المزرعة القديمة من الوحل، الذي يحمل التدرّجات نفسها لألوان الكلاب، كما لو أنّهم انحدروا منها. هذه أرضهم نوعاً ما. أخبرينا عن قصّة مثيرة من يوميات التصوير. الكلاب حيوانات إقليمية للغاية. تتبوّل لتعيّن حدود نفوذها. نتيجة لذلك، تمّ رشّ حامل الكاميرا ثلاثيّ الأرجل والأحذية المطاطية الخاصة بنا، آنّا وأنا، بانتظام، ببول كلابٍ تعتبرنا ملكاً لها نوعاً ما. الاستقبال المبتهج الذي كنّا نلقاه قبل بدء التصوير كلّ صباح من 750 كلباً سعيداً برؤيتنا مرة أخرى، مصدر شعور قوي جداً بالفرح والخوف في آن. دخول الملجأ يتم دائماً ببطء بالغ، من دون حركة مفاجئة، وتقبّل تام للفرح المفرط للكلاب التي أحبّتنا، والذي كان يزداد كلّ يوم قليلاً (وكذلك نحن). أفكّر في هذا المشهد الجميل من الطائرة بدون طيّار، الذي يغلق الفيلم، فيما تعوّدنا الاستخدام الاعتيادي لهذه الوسيلة على رؤيتها في افتتاح الأفلام. كيف جاءت فكرة وضع هذه اللقطة في النهاية؟ هذه صورة نراها غالباً في الأخبار، عندما يعلّق المراسل على الوضع في مخيم للاجئين. إنّها نظرة بعيدة، انطلاقاً من راحة غرفة المعيشة، على البؤس الذي لا يلمسنا حقاً. هذه اللقطة تمثّل تغييراً جذرياً، مقارنة ببقيّة الفيلم. يكون المتفرّج قريباً من الكلاب، ثم فجأة، بعد صوت الراديو الذي نسمعه في الخلفية، والذي يجعل المقارنة مع البشر واضحة جداً، يجد نفسه على مسافة كبيرة، تماماً كما يكون أمام نشرة الأخبار. لا يشعر أنّه معنيّ تماماً بما يشاهد، وفي الآن نفسه يشعر بعجز تام في مواجهة الموقف. العمل على الصوت مهمّ، مع الدقّة في الأصوات التي تعطي سماكة معيّنة لصورة الفيلم. كيف اشتغلت على هذا الجانب؟ مدعاة اختيار تصميم طبيعي للصوت هي تحديداً تقريب المُشاهد من الكلاب، ليشعر حقاً كأنّه بينها. حتّى أنّ البعض أخبرني بشعوره أنّه هو نفسه كلب، وهذه تجربة قوية جداً. إنّها المرة الثّانية التي أشتغل فيها مع برونو بوسيلاّ، مُصمّم الصوت الممتاز، الذي عمل مع بول هوبرت، مُصمّم الضجيج الاستثنائي. أوليا اهتماماً خاصاً بالتفاصيل. رائعٌ ما يمكن أنْ يجلبه الصوت. كلّ شيء ينبض بالحياة فجأة. معاً، أعادا خلق عالم أصوات الكلاب بحذافيره: الخطى، الفرك، المضغ، اللّحس، التّنفس، وحتّى النّباح. عملٌ دقيق وأساسي للغاية، يُعطي انطباعاً بالقرب الشديد من الكلاب. ثمّ قامت مهندسة الصوت، إيزابيل لوسير، بالتّسامي بكلّ هذا أثناء مزج الأصوات. في اللقطة الأخيرة فقط، وضع برونو جانباً طبيعية الصوت لدعم التغيير الجذري في وجهة نظر الصورة، بفضل تصميم صوت موسيقي تقريباً. يتخلّل الفيلم تناوب بين لحظات الحركة المكثّفة (عندما تأكل الكلاب، أو عندما تعود إلى النوم وسط الفوضى) ولحظات أخرى هادئة إلى حدّ التأمل. كم كانت مدّة المواد المُسجّلة كلّها؟ كيف تمّ المونتاج، وكم من الوقت استمرّ؟ وما هي المعايير الرئيسية التي حدّدت ما سيبقى ممّا ينبغي أنْ يزول؟ كنا نصوّر ساعتين يومياً فقط. هذا وقت تُمكّنه مجموعة بطاريات الكاميرا التي جلبناها معنا. نظراً إلى عدم توفّر الكهرباء في الملجأ، ولا على بُعد كيلومترات عدّة، فالملجأ يقع في وسط مقفر. لم نتمكّن من إعادة شحن البطاريات في النهار. أحببتُ هذا القيد الذي جعلني أشعر كأنّي أصوّر بشريط الفيلم. كنّا حريصين على عدم التصوير طول الوقت. لكن، وفقًا لاحتياجات الفيلم، هذا غير سهل عند تصوير الحيوانات. كانت لدينا نحو 12 ساعة من المواد، وهذا غير كثير. المولِّفة شي فانغ، رغم أنّها صديقتي منذ فترة طويلة، فهذه هي المرة الأولى التي نعمل فيها معاً. كان التعاون ملهماً حقاً. نتّفق جيداً في الحياة، واكتشفت أنّنا ننسجم أيضاً فنّياً. استمر المونتاج نحو 3 أسابيع، مع فترات راحة لازمة. بدأنا بمشاهدة المواد، بموازاة مناقشة ما يدور في ذهني. ثم اخترنا اللقطات (أطولها عادة) التي تحكي قصّة البقاء أو الانحباس أو صراع القوى. استمررنا هكذا حتى التجميع النهائي. عملنا معاً طول الوقت، وهذا لطيف للغاية. نظراً إلى غياب نص مكتوب، مهمّ أن نجتمع معاً لتجربة الهياكل المحتملة. لكن، سرعان ما بدا أنّ خيار هيكل يوم أبدي العودة شبه ضروري. كما تمّ خلال فترة المونتاج توضيح المقارنة، وكيف أصبح الفيلم، عبر هذه الكلاب التي تنتظر فرصتها في العيش، انعكاساً لحياة ملايين الناس الباحثين عن أرضٍ تستقبلهم. فاز الفيلم ب”دبّ الكريستال” أفضل فيلم قصير في برلين. الجائزة مهمة. كيف عشت هذه التجربة؟ وماذا تعني لك الجائزة؟ إنّها مكافأة عظيمة. هذا يمنحني وفريق العمل طاقة كبيرة، والأهمّ أنّها تُسلّط الضّوء على مغزى الفيلم، وشرط الكلاب القابعة في الملجأ. إنّها المرة الثانية التي أقدّم فيها فيلماً في ال”برليناله”، في قسم “جيل”. المرة الأولى عام 2011 مع “مختار”، تركت فيّ ذكرى تجربة مجزية للغاية. جمهور هذا القسم يغلب عليه شباب ملتزم. تُثار فيه غالباً نقاشات مثيرة بعد العروض، كما حصل مع “كلب”، فاللقاءات رائعة مع الجمهور. كنتُ متشوّقة لمعرفة كيف سيتمّ استقبال الفيلم. لم أشعر بخيبة أمل من ردود الفعل. أحدهم رأى فيه أوبرا لبريشت مثلاً، وآخر رأى اقتباساً ل”مزرعة الحيوانات” لجورج أورويل. عديدون أقاموا تشابهاً مع تصرّفات مجتمعنا الاستهلاكي التي يجسّدها جنون ال”بلاك فرايداي” كمثال. أحدهم فكّر في القصيدة الرائعة “الكلب” لتشارلز بوكوفسكي. في النهاية، وجد كثيرون في أنفسهم شيئاً من التّماهي مع سلوك الكلاب. بالنسبة إليّ، هذا جزء من التجربة السينمائية. أن نتشارك مشاعرنا بعد عرض الفيلم، ونواجه رؤيتنا للعالم، ونتقبّل شعورنا الرهيب بالعجز في مواجهة الأزمات الإنسانية الكبرى ومخاوفنا إزاء مستقبل كوكبنا. يمكننا مساعدة بعضنا البعض على تجاوز الخوف والتشبّث بالأمل. أنا ممتنّة للغاية حين أرى كيف يلامس طرح الفيلم الجمهور ويدفعه إلى التّفاعل. عندما يحصل الفيلم على “دبّ الكريستال” (وجائزة لجنة التحكيم الخاصة)، فتلك حبة (حبّات) كرزٍ على الكعكة. ماذا عن مشاريعك المستقبلية؟ أكتب فيلماً طويلاً هو الأول لي، كوميديا نسوية بعنوان “كاميل درايفين سكول”، إنتاج شركة “إندي برود” (باريس). وبدأتُ أخيراً كتابة روائي آخر، “سعدان المسجد”، قصة فتاة صغيرة ووالدها وقرد من الذين يُنتزعون يومياً من محيط عيشهم في جبال الأطلس في المغرب. أشتغل أيضاً على فيلم قصير عن استخدام فتيات المناطق القروية المغربية لشبكات التواصل الاجتماعي.