لا حظّ للعرب مع المبعوثين الأمميين لبؤر التأزم في منطقتهم، كل المؤشرات تدل على أن بعثات الأممالمتحدة كثيرا ما تشتغل انطلاقا من مرجعيات محددة، وعلى أقليات بعينها سواء كانت أيديولوجية أو سياسية أو جهوية أو ميليشياوية، وتتجاهل عموم الشعب، ثم إن آخر ما يهمها موضوع السيادة الوطنية. نلاحظ ذلك في ملفات العراق واليمن وسوريا والصحراء المغربية، والتي عرفت جميعها مباحثات في جنيف لم تسفر عن نتائج تذكر باستثناء السفريات والإقامات والمكافآت، أو المزيد من إعطاء الفرص للميليشيات الخارجة عن القانون، أو للمتمردين على سيادة الدولة لإعادة ترتيب أوراقها. بعثة الأممالمتحدة إلى ليبيا تواجه اليوم انتقادات حادة بسبب ما يراه البعض انحيازا مفضوحا إلى جماعة بعينها هي جماعة الإخوان، وإلى منطقة بعينها هي مصراتة. محادثات جنيف الأخيرة أكدت هذا الاتجاه، عندما تم تشتيت حضور البرلمان المنتخب وتهميشه من خلال توجيه الدعوة لمن اعتبرتهم البعثة جزءا من ممثليهم وهم النواب المقاطعون منذ انحيازهم إلى انقلاب فجر ليبيا الدموي على نتائج الانتخابات في صيف 2014، أي أنهم من الشق الذي تمت إعادة تدويره في مؤتمر الصخيرات بمنحه إطارا استشاريا لفائدة نظرائه من أعضاء المؤتمر الوطني العام الذي يفترض أن ولايته انتهت قبل ست سنوات، ثم قامت البعثة بترقية ذلك المجلس إلى رديف لمجلس النواب المنتخب، من خلال المساواة بينهما في عدد المشاركين في المسار السياسي المنبثق عن مؤتمر برلين، تماما كما حدث في مؤتمر الصخيرات، ولكن كان لا بد هنا من رفع سهم مجلس الدولة بإضافة عدد من مقاطعي مجلس النواب إلى صفوفه. في الجولة الأولى من حوار جنيف لوحظ الحضور الإخواني المكثف من خلال القيادي في الجماعة عبدالرزاق العرادي والقيادية في حزب العدالة والبناء ماجدة الفلاح، والنواب المنشقين المحسوبين على تيار الإسلام السياسي مثل محمد الرعيض وعائشة شلابي وسيدة اليعقوبي وعمر غيث، وتمت دعوة من وصفتهم البعثة ب"المستقلين" وهم من منظومة حكومة الوفاق، وفي مقدمتهم وزير الداخلية فتحي باشاغا وتاج الدين الرازقي المستشار الأمني لفايز السراج، وعبدالله عثمان المتحالف مع الإخوان والذي رفض نواب إقليم فزان تمثيله منطقتهم في الحوار، وسفير السراج في الرباط عبدالمجيد سيف النصر الذي كانت جماعة الإخوان رشحته في 2018 لاحتلال موقع موسى الكوني المستقيل من عضوية المجلس الرئاسي. لا تعترف البعثة الأممية بالفعاليات الاجتماعية المؤثرة ولا بشيوخ وأعيان القبائل، ولا ينظر إلى مجلس النواب بصفته الدستورية والشرعية المنبثقة عن انتخابات معترف بنتائجها دوليا، ولا حتى بصفته السياسية أو الرمزية كونه المؤسسة التشريعية التي تنبثق عنها المؤسسة العسكرية المسيطرة على أغلب مناطق البلاد، والحكومة التي تدير شؤون تلك المناطق، وإنما تراه فقط كمؤسسة تعرضت إلى تصدعات بخلفيات أيديولوجية ومصلحية وليست سياسية أو اجتماعية. منذ أحداث فبراير 2011 لم تنظر الأممالمتحدة إلى موقف الأغلبية الشعبية في ليبيا، وإنما إلى من يرفعون أصواتهم أكثر، أو من يتقربون إلى مراكز القرار ومن يتقدمون بملفات الخدمة إلى أجهزة المخابرات الغربية، ومن يعتمدون في ذلك على شبكات العلاقات القَطَرية والتركية والإخوانية، وصولا إلى أمراء الحرب وقادة الميليشيات، وكل ذلك يجري تحت شعارات الحرية والديمقراطية أو "الدولة المدنية" التي يزعم الإرهابيون والمرتزقة والتكفيريون الدفاع عنها، رغم أنها تتناقض مع نزعتهم الإسلامية التي لا تزال تقود تحركاتهم منذ تسع سنوات، فالصراع الليبي انبنى بالأساس منذ فبراير 2011 على التكفير؛ تكفير القذافي ونظامه، وتكفير الجيش وقائده، وتكفير القبائل والعشائر والنخب الرافضة للتدخل القَطَري التركي أو للهيمنة الإخوانية غير المعتمدة على شرعية شعبية أو انتخابية. إن البعثة الأممية في ليبيا التي تتعرض اليوم إلى هجمة إخوانية بهدف المناورة لا غير، أصبحت جزءا من المشكلة قبل أن تكون جزءا من الحل، وهي تنطلق من حسابات مرتبطة بالواقع الإقليمي والدولي قبل أن ترتبط بالواقع الليبي الحقيقي، وأي مباحثات في جنيف ستقود إلى نتائج لا تختلف عن نتائج الصخيرات، فالهدف هو تكريس جماعة بعينها ومدينة بعينها، اعتقادا بأنهما تمثلان رمزا لليبرالية الاقتصادية الفجة التي يراد لها أن تسيطر على البلاد، بينما يُنظرُ إلى الجيش على أنه امتداد للدولة الوطنية ولدورها الاجتماعي وخصوصياتها الثقافية التي يتم استهدافها من جديد.