الفوز الذي حققه أستاذ القانون الدستوري قيس سعيّد في الدور الأول لرئاسيات تونس الأحد الماضي بترشحه إلى الدور الثاني متصدرا النتائج، فاجأ المراقبين والمحللين، ولكنه قبل ذلك زلزل الساحة السياسية واقتلع منظومة الحكم الكلاسيكية من قصر قرطاج، وأكد فشل الأحزاب والائتلافات، وأطاح بكهنة السياسة ومحترفي التخطيط والاستشراف، وشرع الأبواب والنوافذ على مستقبل يستبشر به البعض ويخشى عواقبه البعض الآخر. وسيكون على التونسيين أن يتعايشوا مع إفرازاته في حال فوز سعيّد بكرسي الرئاسة. وأول ما يمكن التوقف عنده في موضوع قيس سعيّد أن فكرة ترشيحه لرئاسة تونس ليست وليدة شهر أو حتى عام، وإنما هي فكرة تدور في عقل أصحابها منذ أكثر من أربع سنوات، أي منذ انتخابات 2014 التي فاز بها الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي، عندما أحس بعض الشباب الثوري الرومنسي الحالم بوضع مختلف للبلاد وبمشروع سياسي مغاير أن عليه أن يبحث عن البديل ليس لمن يجلس على كرسي الحكم فقط، وإنما للمنظومة السياسية ككل بما تشمله من موالاة ومعارضة وإعلام تقليدي وخطاب أيديولوجي عقيم فاقد لأدوات التجديد من داخله. من أبرز من دفعوا إلى هذه الرؤية شاب معروف بعبقريته في مجال التقنيات الحديثة والإنترنت وفي مجال التأثير على الرأي العام، وكانت له تجربة مع أحد الأحزاب، لكنه أدرك أن ذلك التيار الذي كان ينتمي إليه لن يصل إلى أي نتيجة إيجابية، وبعد استعراض عدد من الوجوه التي يمكن المراهنة عليها لصناعة رئيس للبلاد يفوز بالحكم في 2019 جرى الاختيار على قيس سعيّد، أستاذ القانون الدستوري، الزاهد والمنضبط والهادئ وقليل الكلام والمتحدث بالفصحى إذا نطق، والحامل لجملة من الأفكار الثورية وفق مريديه، والمحترم من قبل طلبته وزملائه. كان لا بد من اعتماد فيسبوك في صناعة الرئيس، فتم إحداث صفحات تحمل اسمه وصورته وبعض مقولاته، ومقولات أخرى تُنسب إليه تتعلق بالقضايا الساخنة مثل السيادة والثروات والقرار الوطني والعدل الاجتماعي والعدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية والحقوق العامة والخاصة، وهي مقولات صادرة في الحقيقة عن ضمير أولئك الشبان الذي يتبنّون خيارا ثالثا لا هو خيار السلطة ولا خيار المعارضة، ولا هو خيار يساري ولا يميني، ولا ديني ولا مدني، ولا سلفي ولا حداثي، ولا رجعي ولا تقدمي. خيار متمرد على كل التعبيرات السائدة والمتداولة، يهدف إلى تكريس رؤية جديدة للحكم والدولة والمجتمع، ربما تكون أقرب إلى فكر معمر القذافي مع بداية مشروعه لإرساء ما كان يسميها بالديمقراطية المباشرة في ظل سيادة وطنية كاملة وتأميم للثروات وقطع مع ثقافة التمثيل البرلماني التقليدي. ولتحقيق الهدف تم تنفيذ مخطط ذكي على موقع فيسبوك، من خلال المجموعات المغلقة التي كان يديرها الرأس المدبر للعملية التقنية، حتى إن إحدى تلك المجموعات وصل عدد المشتركين فيها إلى 275 ألف ناشط هم في الواقع من الطلبة والنخب الجامعية والمثقفين ومن الموظفين والعاطلين، وأغلبهم من المقاطعين للمنظومة السائدة، حتى أنهم لا يتابعون الإذاعات ولا القنوات التلفزيونية إلا من خلال ما ينقل عبر مواقع التواصل الاجتماعي. تونسيون مختلفون جمع بينهم مشروع جعلهم يقتربون من بعضهم، ويرتبطون بعلاقات فكرية وإنسانية في ما بينهم، ويتواصلون رغم بعد المسافات ما بينهم، وأحيانا يلتقي بعضهم بالمقاهي، وكانت كلمة السر التي تجمع بينهم هي قيس سعيّد. اللافت أن هؤلاء الناشطين وأغلبهم من الشباب كونوا شبكات على المستويات المحلية فالجهوية ثم الوطنية، كان من الصعب اختراقها أو حتى التنبه إليها، وجعلوا منها نواة لمشروع ليس سياسيا فقط، وإنما لإحداث تغيير جذري في نظام الحكم القائم مند أكثر من 60 عاما، من خلال إحداث كومونات تنطلق من الحي فالمنطقة والمعتمدية، ثم الولاية وصولا إلى السلطة المركزية، إذ أنهم لا يعترفون بالقانون الانتخابي الحالي ولا بالقائمات الانتخابية، وإنما بالفرد الفاعل كمنطلق لتنفيذ الخيار الشعبي بالوصول إلى تمثيلية حقيقية للمجتمع. استطاع الناشطون أن يحققوا ما عجزت عليه قيادات الأحزاب وأموال رجال الأعمال ومقدرات الدولة المعتمدة من قبل بعض المرشحين وكل أشكال تجييش الانتخابي عبر الاجتماعات الحاشدة ووسائل الإعلام المختلفة والإعلانات الضوئية، ودفعوا بمرشحهم إلى الفوز في سابقة فريدة من نوعها، حيث لم تتجاوز تكاليف حملتهم 30 ألف دولار أميركي، وتمت إدارتها من شقة بسيطة في بناية سكنية، ورفضوا الحصول على أيّ تبرعات من رجال الأعمال واكتفوا بما جمعوه من مدخراتهم الخاصة البسيطة. هؤلاء الناشطون قد تجد من بينهم الثوري الاشتراكي والعلماني والإسلامي، ولكن أغلبهم بلا ميولات عقائدية محددة. هم فقط يعتقدون أن الرجل الذي أجمعوا عليه ليس محسوبا على لوبيات أو مافيات أو عصابات ولا يمكن التشكيك في ذمّته ولا في نظافة يده، ولا في ارتهانه لأيّ طرف خارجي أو محور إقليمي أو قوة دولية نافذة، ويعتبرونه رمزا للطهارة الثورية والقيم الاجتماعية والإنسانية التي يؤمنون به، كما أنه لا ينتمي إلى حزب ولم يتورّط مع سلطة ما سواء قبل 2011 أو بعده. إن الذين يقفون وراء قيس سعيّد والذي يصل عددهم إلى حوالي 600 ألف شخص، لن يكتفوا بما حققوه في انتخابات 15 سبتمبر، وإنما سيكون لهم دور أكبر في حال فوز مرشحهم في الدور الثاني، وأغلبهم لن يذهب إلى الانتخابات البرلمانية لأنهم لا يعترفون بنظام الحكم القائم أو بالقانون الانتخابي المعتمد، وسيعملون على تشكيل الكومونات في مناطقهم، وسيعرضون مشاريعهم على الرئيس ليتبنّاها ويعرضها على البرلمان كمبادرات دستورية، دون أمل كبير في أن كتل الأحزاب ستتبناها، خصوصا وأن سعيّد لن يكون له سند برلماني وهو المستقل، لذلك سيعتمدون على الضغط الشعبي من خلال تحركات ممنهجة في كامل أرجاء البلاد، بروح ثورية مختلفة عن كل ما عرفته البلاد سابقا. لا يذهبنّ في عقل أحد أن الواقفين وراء قيس سعيّد يعبّرون عن حركة النهضة أو حزب التحرير أو التيارات اليسارية المتشددة أو غيرها، رغم تنوع مرجعياتهم الفكرية، إنما هم جيل من الشباب المتعلم والمثقف والغاضب والحالم الذي يرى أنه قادر على تغيير كل الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي كما نجح في قلب الموازين الانتخابية، وهو يعتبر نفسه فوق الأحزاب وأكبر من السلطة ذاتها، ومتجاوزا للنظام السائد وللمنظومة التقليدية، ويعتمد على أدواته في تحقيق أهدافه، ولا ينفي طوباويته ولا رومنسيته التي يرى أنها الطريق إلى الأفضل، وعلى التونسيين أن يستعدوا لمتابعة ما سيدفعون إليه إذا حققوا هدفهم في الدور الثاني من الرئاسيات، والذي قد يأتي بجديد ليس على مستوى تونس فقط وإنما في المنطقة ككل، ولكن أيّ جديد؟ هذا ما تكشفه الأيام. الحبيب الأسود