أصبحت عبارة «الربيع العربي» محل تندر مُرّ بعد تدهور الأوضاع منذ الانتفاضات الشعبية إلى حد أن البعض أصبح يقول إن الأجواء العاصفة توحي في الواقع بحلول فصول أخرى أقل إشراقة من الربيع. ولكن الكثيرين في الواقع كانوا هم أنفسهم وراء خيبة الأمل التي أصابتهم. إذ كان من باب التسرع وتجاهل العوامل التاريخية الموضوعية الافتراض آليّا أن العالم العربي سيمر بعد ديسمبر 2010 بعمليات انتقال ديمقراطي شبيهة بتلك التي مرّت بها بلدان أوروبا الشرقية بعد سقوط جدار برلين. فبالرغم من بعض نقاط شبه الملفتة، فإن عمليات التحول السياسي الحاصلة في البلدان العربية منذ 2011 كانت مختلفة تماما عن تلك التي شهدتها أوروبا بعد انهيار الشيوعية. ذلك أن قادة التحولات التي شهدتها أوروبا بعد سنة 1989 استعانوا بإرثهم الديمقراطي المتجذر في التاريخ، في تحسسهم لطريقهم من تحت ركام الشيوعية. في حين أن الطبقات السياسية في بلدان الربيع العربي لم تجد مثل هذا الإرث لتستند إليه. بل وجدت نفسها عوضا عن ذلك تواجه رواسب مظلمة ومعوقة راكمتها سنوات الحكم الاوتوقراطي. وبالرغم من محاولات القوى الداعية للتغيير الديمقراطي في الوطن العربي رصّ صفوفها فترات طويلة، فإن معظم النخب السياسية العربية بقيت في الواقع مدّة عقود كاملة مهمّشة ومقصاة تدقّ، دون جدوى، أبواب المشاركة السياسية في وقت كانت فيه الأنظمة الحاكمة الفاقدة لأية رؤية مستقبلية تخوض معركة ميؤوس منها للإبقاء على الوضع القائم. الفرق بين ثورة العرب وثورة أوروبا لقد كان المفكر الأميركي روبرت كابلان محقا عندما قال مؤخرا: «تقدمت العملية الانتقالية في وسط أوروبا وشرقها بعد انتهاء الحقبة الشيوعية بشكل أسرع من العالم العربي، وذلك لأن البلدان الأوروبية كانت تبني مسارها على أساس تراكمات من الممارسات الديمقراطية والثقافة البورجوازية التي تعود لفترة ما قبل الحرب العالمية الثانية، وهو أمر لم يكن له وجود في العديد من البلدان العربية». وإضافة لتجاربها العريقة في الديمقراطية, فإن الشعوب الأوروبية في منطقة ما وراء الستار الحديدي كانت جغرافيّا على مقربة من مجتمعات متحررة سياسيا. وقد ساعدها موقعها ذلك على أن تكون مطلعة على نمط الحياة الذي كان يتمتع به جيرانهم في الغرب. وعندما بدأت الجدران الفاصلة بين المعسكرين في الانهيار كان الانضمام إلى المجموعة الأوروبية الموسّعة والمؤسسات الأطلسية القائمة، مثل منظمة الحلف الأطلسي، خير محفّز لإزالة هذه الجدران بشكل سريع وتام. وأصبح «بناء أوروبا متكاملة وحرة»، مثلما قال بافول ديميس، مسؤول صندوق مارشال الأميركي الألماني، «مشروعا ضخما غير مسبوق وعلى قدر كبير من الجاذبية لشعوب وقادة الغرب الديمقراطي وفي أوروبا ما بعد الشيوعية». أما في البلاد العربية فإن الثورات، التي حدثت منذ ثلاث سنوات تقريبا، قد اندلعت على خلفية وضع ثقافي قاحل زادته تعقيدا الأزمات الاقتصادية والاجتماعية الخانقة. وفي نهاية العقد الماضي، مثلا، كانت بطالة الشباب في أفريقيا الشمالية، وخاصة بين أصحاب الشهادات الجامعية، تبلغ أعلى المستويات في العالم. وكانت نسبة الفقر تتجاوز العشرة في المئة. والأخطر من ذلك كان وجود فوارق تنموية كبيرة بين الجهات داخل بلدان «الربيع العربي». وقد ساهمت الأنظمة السابقة بنفسها في إثارة الانتفاضات المناوئة لها من خلال تبشيرها بنماذج من الرقي الاجتماعي لم تكن قادرة على تحقيقها. وقد حاول قادةٌ مثل حسني مبارك في مصر وزين العابدين بن علي في تونس التصدي لليأس لدى الشباب بترويجهم «للمساواة في الفرص» كمثل أعلى. ولكنهم نزعوا في الواقع عن أنفسهم كل مصداقية في ذلك بتسامحهم مع الفساد والمحسوبية بين أقاربهم. وفتحت السياسات التعليمية المتبعة في ظل تلك الأنظمة المجال واسعا لنشوء بروليتاريا ضخمة من أصحاب الشهادات الجامعية، في حين أنها لم تخلق سوى القليل من فرص التشغيل ذات القيمة المضافة. وأصبحت الشهادات الجامعية بالنسبة إلى الشباب بمثابة باب يفتح إلى المجهول. وأضحى الفشل في تحقيق التطلعات دافعا إلى التمرد. وعندما سقطت الأنظمة الحاكمة وجد الشباب المتمرد نفسه بلا وجهة واضحة. لم تكن هناك في البلدان المجاورة أية منطقة مزدهرة يمكن أن يقصدونها، مثلما كان الحال بالنسبة إلى الشباب البولوني الذي كان بإمكانه مثلا أن يقصد لندن أو باريس أو غيرهما. لم تكن هناك في العالم العربي «ألمانيا غربية» مستعدة للدخول في مقامرة وجودية من أجل إنقاذ جار أكثر فقرا. لم يكن هناك أي شيء يشبه مخطط مارشال. ولم يكن هناك شيء يماثل بأي شكل من أشكال المساعدات الضخمة التي قدمتها أوروبا الغربية والولايات المتحدة لوسط وشرقي أوروبا بعد 1989. عوضا عن ذلك، كانت هناك حروب أهلية وغارات جوية أطلسية واضطرابات مستمرة ووضع متخلف في جوار كل بلدان «الربيع العربي». ومن المفارقات الملفتة هي أن حالة التعبئة الوحيدة التي أنجزتها البلدان الغربية في المنطقة كانت لمواجهة تسرب الجماعات الجهادية إلى مالي، وهو مشكل يعود أساسا إلى غياب اية استراتيجية غربية من أجل الانسحاب من ليبيا بعد انتهاء الحرب هناك. قنبلة موقوتة بعد أن أزاحت الاحتجاجات الشعبية الأنظمة السابقة النظام تلو الآخر، لم تتغير الظروف الاقتصادية والاجتماعية كثيرا. إذ بقي المحرومون والعاطلون عن العمل والفقراء.. محرومين وعاطلين عن العمل وفقراء. ولم يكن للوضع أن يتحسن دون ظروف أمنية أفضل واستقرار أكبر وتسيير أفضل مستند على قدر أعلى من الخبرة. ونظرا للركود الذي أصاب معدلات النمو ونسق خلق مواطن الشغل فقد بقي غضب الشباب محتقنا. ولازال إلى حد اليوم بمثابة القنبلة الموقوتة التي تهدد بالانفجار. وفي الوقت الذي كانت فيه مؤسسات الدولة تواجه مشاكل وتحديات متراكمة إضافة لفقدانها للاستقرار، فإن الحماس الثوري حرم الحكومات الناقصة للتجربة من مساهمة الكوادر العليا الذين كان بإمكانهم مساعدتها على مواجهة التأثيرات العاصفة للتغييرات الراديكالية. وشكّل إقصاء المسؤولين الذين شغلوا مناصب قيادية في الأنظمة السابقة عقبة كأداء بالنسبة إلى الحكام الجدد في سعيهم لتحقيق نتائج لم تكن بتاتا في متناولهم. وبقدر ما واجه النظام الاجتماعي الجديد في بلدان «الربيع العربي» مصاعب في مواجهة تحديات الحاضر، واجه أيضا صعوبة في التعامل مع مخلفات الماضي. وتمت شيطنة عهد ما قبل الثورة بشكل واسع دون أن تكون هناك أية دراسة موضوعية للماضي. كانت الأوضاع في المنطقة بعد الثورات العربية مختلفة عن الاوضاع إبان المرحلة الانتقالية في جنوب أفريقيا بعد انهيار نظام الميز العنصري. حيث كانت النخبة السياسية الفاعلة في جنوب أفريقيا تعمل بمقولة الكاتب البريطاني لزلي بولز هارتلي الشهيرة: «الماضي بلاد أجنبية يتصرف فيها الناس بشكل مخالف». لم يكن الأمر كذلك بالنسبة إلى الثوريين في بلدان «الربيع العربي» الذين جعلتهم الضغائن مشدودين إلى الماضي. وبقي تبعا لذلك الكثير من المسؤولين السابقين عالقين قضائيا. ولم يتم في المقابل الاعتراف كما ينبغي بما تحمله الناشطون السياسيون السابقون، وبينهم الإسلاميون واليساريون وغيرهم، من تعسف. وبقيت المسائل الخلافية الجوهرية الموروثة من الماضي مثارا للكثير من الاحتقان. ولم تحظ تلك المسائل بأية معالجة حقيقية بالرغم من أنها كانت مصدر شروخ مجتمعية عميقة وخطيرة. ومهما كان حسن نوايا الإسلاميين والعلمانيين الراغبين في التعايش، فقد كان من غير الواقعي أن نتوقع انصهار الدين والسياسة دون مطبات. بل إن الأمور بلغت تعقيدا إضافيا يستعصي على الحل نتيجة مواقف الإسلاميين الراديكاليين الذين كانوا يرون في الديمقراطية «دينا يناقض شرع الله». وبميولهم العنفيّة دمر المتطرفون الاستقرار السياسي الهش خلال فترة ما بعد الانتفاضات. وحتى دون الضغوط التي مارسها باستمرار غلاة الأصولية، فإن العلمانيين والإسلاميين المعتدلين وجدوا صعوبة في بناء علاقة ثقة بينهم. وكان البون شاسعا بينهم إلى حد أنهم بدوا وكأنهم يعيشون في عالمين مختلفين تماما تفصلهما اختلافات جوهرية بخصوص مفاهيم الهوية الثقافية والصيرورة التاريخية ونمط الحياة وتصورات المستقبل. ومثلما علّق على ذلك مؤخرا أخصائي القانون الدستوري، في تونس، قيس سعيد فإن الاختلاف لم يكن «سياسيا أو قانونيا أو دستوريا، بل وجوديا». صراع «شرعيات» عوضا عن إقامة حوار حقيقي لجأت الأطراف في كثير من الأحيان، في التعامل فيما بينها، إلى الصور النمطية والشيطنة المتبادلة. ووصل ذلك بالخصوم السياسيين إلى حد وصف بعضهم بعضا على الشبكة الاجتماعية «فيسبوك» أو في وسائل الإعلام التقليدية «بالجرذان» و»الكلاب» و»الأفاعي». وزاد في ابتعاد المعسكرين عن بعضهما البعض اعتماد أحدهما على رؤية سياسية ضيقة وسقوط الآخر في الاستعلاء الثقافي تجاه الآخر. وعمّق التوتر المزمن بين الطرفين الاعتقاد في عدم إمكانية تحقيق كافة الفرقاء للربح من وراء العملية السياسية إلا على حساب منافسيهم. فقد حولت رواسب الحقد وانعدام الثقة التنافس السياسي إلى لعبة شطرنج من أجل البقاء. وأصبحت خسارة أية جولة تعني، ليس بداية جولة جديدة، بالنسبة إلى اللاعبين السياسيين وإنما نهاية اللعبة بشكل نهائي والسقوط في أسفل درك الجحيم بالنسبة إلى الخاسر. فتح ذلك الطريقَ أمام حلقات جديدة لا تنتهي من الصراع الذي يسعى فيه الطرف الرابح إلى الفوز بكل الغنائم ويحرم المهزوم من كل شيء. ونتج عن ذلك تدهور للمناخ السياسي بشكل كان يتناقض أساسا وقواعد الثقافة الديمقراطية. وأظهر القادة الجدد الذين ارتقوا إلى السلطة بعد الثورات ميلا للاستئثار بالحكم وإقصاء معارضيهم. ولم تكن قوانين اللعبة الديمقراطية أصلا مرسومة بوضوح أو راسخة بعمق في الأذهان. وما كان لعمليات الانتقال الديمقراطي ان تشهد تقدما على ضوء مناخ الريبة السائد. فقد كان العلمانيون تخامرهم الشكوك في استعداد الإسلاميين المنتخبين حديثا للتخلي جديا عن السلطة. أما الإسلاميون فأصبحوا يخشون أن يتم استهدافهم مجددا ويصبحوا ضحايا مرة أخرى إذا ما اضطروا لمغادرة السلطة. وأصبح كل واحد من المعسكرين يستند إلى شرعية مختلفة تنازع شرعية الأخرى: فصارت «شرعية الجماهير» في مواجهة مع «الشرعية الانتخابية». وأضحت الاحتجاجات في الشارع من أهم أشكال المبارزة السياسية. وتشكّل اعتقاد عند البعض بأن احتكار السلطة على حساب المنافس من شأنه أن يشكل «الثورة الثانية» للربيع العربي. والآن وقد تفاقمت الأوضاع فإن وصف المواجهة المزمنة القائمة بأنها مظهر من مظاهر «الاستقطاب السياسي» أصبح لا يؤدي المعنى تماما، إذ أن العنف السياسي وعسكرة الحياة السياسية أصبحا يشكلان أخطارا حقيقية داهمة. فعندما تفشل الأطراف السياسية بشكل نهائي في حل خلافاتها سلميا يصبح احتمال دخول العسكر والميليشيات للمعترك السياسي أمرا واردا. ومازال خطر النزاعات الأهلية والاضطرابات العنيفة اليوم يهدد بشكل جدي مستقبل بلدان الربيع العربي. وبالرغم من ذلك, فإن العديد من الخبراء الغربيين ما انفكوا «يبشّرون» بلدانهم بأنه ليس هناك أي داع للانشغال. فالنزاعات الحالية حسب قولهم ما هي إلا «حروب أهلية بين المسلمين أنفسهم» كما أن مستوى الفوضى الناتجة عن ذلك «قابل للاحتمال». ولكن هؤلاء الخبراء غفلوا عن الأخذ بعين الاعتبار احتمال امتداد انعكاسات الحروب الأهلية العربية إلى أوروبا وأميركا وغيرها من البلدان، أو الانتباه إلى أن ظهور دول فاشلة جنوب المتوسط سوف ينعكس بكل تأكيد سلبا ليس فقط على معظم الشعوب العربية ولكن في كثير من الأحيان على الغرب أيضا. المصالحة مع الماضي من غير الواقعي اليوم البحث عن حلول مبنية على وصفات «الانتقال الديمقراطي» التقليدية. بل من الضروري إعادة النظر في المسلّمات ومراجعة المناهج المعتمدة في «تغيير الأنظمة». ومن الهام أن يتم ذلك بسرعة. وإذا كان من المشروع أن يساند دعاة الديمقراطية في الغرب ثورات الربيع العربي بكل حماس فإنه من المفروض أن يكونوا أكثر وعيا بأهمية المصالحة الوطنية ضمن مسارات الانتقال الديمقراطي. ومثلما لا زالت الأحداث تبرهن على ذلك، فإن عجز الطبقات الحاكمة الجديدة عن التعالي عن النزعات الانتقامية سوف يلحق الضرر بالمسؤولين السابقين ولكنه سينعكس أيضا بشكل سلبي على إمكانية الانتقال السلمي للسلطة ذاتها. فمن المستبعد أن تقبل الأنظمة الجديدة الحاكمة الانسحاب بهدوء من السلطة إذ ما كانت تخشى من تعرضها للعسف بعد مغادرتها سدة الحكم. العنف السياسي وعسكرة الحياة السياسية يشكلان أخطارا داهمة ويصبح الحق الانتخابي عندئذ مضمونا «مرة واحدة فقط»، حسب تعبير وكيل وزير الخارجية الأميركي السابق ادوارد دجيريجيان، وذلك عندما يتحول احتمال انقضاض طرف ما على السلطة كابوسا يقض باستمرار مضاجع كل الذين يأملون في أن تتواصل عمليات الانتقال السلمي للسلطة بشكل سلس. ومن جهة أخرى, فإن الاعتماد المفرط على السلطة القضائية لتصفية حسابات الماضي لن يؤدي إلا إلى تعقيد الأمور. فمن الصعب أن يتصور المرء فائدة من إثقال كاهل القضاء بجملة من القضايا هي أساسا قضايا سياسية وإدارية، خاصة وأن السلطة القضائية تنوء أصلا تحت عبء من القضايا يتجاوز طاقتها. وتدل تجارب العديد من الدول، خاصة منها الأفريقية، على أن قوانين العفو يمكن أن تساهم بشكل كبير في طي صفحة الماضي، وتيسّر السبيل أمام الإفصاح عن الحقيقة والاعتراف بأخطاء الماضي في إطار مسارات للمصالحة. وفي المقابل عندما تتواصل مسارات «العدالة الانتقالية» لفترة طويلة جدا فإن ذلك من شأنه ان يخلق جيلا جديدا من الضحايا وأن يولّد مخزونا إضافيا من الضغائن. ومن الأكيد أن عاملي الكسل الفكري والانتهازية السياسية قد ساهما في خلق فكرة خاطئة مفادها أن العدالة العقابية أقرب للعقلية العربية من المصالحة. وبالرغم من توفر الكثير من المستندات الفكرية والدينية التي تؤسس لمفهوم التسامح في الإسلام فإن المبادرات الرامية لتقديم مقاربات فقهية للمصالحة بقيت مع الأسف نادرة. ويزيد غياب المصالحة في تعقيد العملية الانتقالية ومهام الحكم فيها في ظل مشاكل عديدة من بينها مشكل الإرهاب. وليست تونس البلد الوحيد من بلدان الربيع العربي التي لم تكن مستعدة لمواجهة النتائج الناجمة عن إطلاق سراح المتطرفين المتورطين في جرائم خطيرة ولعودة آخرين من الخارج. ولم تكن البلد الوحيد الذي تأثر بانعكاسات تدفق الأسلحة والجهاديين عبر الحدود، خاصة بعد حربي ليبيا ومالي. الثورات، التي حدثت في البلاد العربية منذ ثلاث سنوات تقريبا، اندلعت على خلفية وضع ثقافي قاحل فقد بلغت الأسلحة المهربة من ليبيا غربي أفريقيا والمغرب العربي وشبه جزيرة سيناء ومناطق أخرى. ويذكر أن اغتيال الناشطين اليساريين التونسيين شكري بلعيد ومحمد البراهمي تم، حسب السلطات، باستعمال السلاح نفسه المتمثل في مسدس من عيار 9مم تم تهريبه من ليبيا. وإذ يبدو تهديد تنظيم القاعدة محدقا بالمنطقة بأسرها أكثر من أي وقت مضى، من اليمن إلى ليبيا ومن سوريا إلى تونس ومصر، فإن الاضطرابات الاجتماعية وانقسام الطبقات السياسية من شأنها إضعاف قدرات الدول المعنية على مقاومة الإرهاب. والملفت أن بعض السياسيين المتنازعين يرون في الأحداث الإرهابية فرصا سانحة لجني فوائد سياسية، مما جعل وزير الداخلية التونسي لطفي بن جدو يشتكي بمرارة في غشت الماضي من أن «صفوف المواطنين تتراص في كل البلدان التي يضربها الإرهاب إلا في تونس حيث يفرق الإرهاب بين الناس». خطر التقسيم وإضافة للانقسامات السياسية والإيديولوجية ,فإن النعرات القبلية والجهوية والعرقية تهدّد الوحدة الترابية للعديد من البلدان مثل ليبيا وسوريا. وفي ليبيا على وجه التحديد أججت التوترات الخطيرة الصراعات بين القبائل والنزاعات في المدن. بل هي أدت حتى إلى إعاقة تدفق الإنتاج النفطي. وغذّى توفر الأسلحة والمتفجرات بكميات كبيرة في الشارع منذ سقوط نظام القذافي مسلسل تصفية الحسابات والاغتيالات. وما انفك القضاة السابقون وقدماء ضباط الجيش والشرطة يسقطون تحت وابل الرصاص. بل أن القتلة أصبحوا خلال الفترة الأخيرة يستهدفون كذلك الناشطين السياسيين والصحافيين. وتخلق حالة عدم استتباب الأمن والاستقرار صعوبات بالنسبة إلى بلدان مثل تونس ومصر تسعى لاستقطاب المستثمرين والسياح الأجانب. وبالرغم من كل الدعم المالي الإقليمي والدولي الذي يمكن أن تحصل عليه هذه البلدان غير النفطية فإنها تحتاج إلى إطلاق وتنفيذ خطط طوارئ اقتصادية لاجتناب الإخفاق والانهيار الاقتصاديين. ولضمان تحقيق الانتعاشة الاقتصادية التي تنشدها فهي تحتاج لكبار موظفيها من كافة الأجيال. وليس بإمكانها أن تستغني عن أي من نخبها وكفاءاتها العالية. كل هذه التحديات مترابطة، والانشغال بالأوضاع الاقتصادية والأمنية يمكن أن يتسبب في فتور الحماس بخصوص الانتقال الديمقراطي. وقد أظهرت عملية سبر آراء أجرتها في شهر سبتمبر الماضي مؤسسة «بيو» الأميركية للاستطلاعات أن أغلبية التونسيين أصبحت تعطي الأولوية للازدهار السياسي والاستقرار السياسي بالمقارنة مع بناء الديمقراطية. السلم.. طلب مستعجل في الوقت الذي تواجه فيه شعوب الربيع العربي اضطرابات داخلية فهي تشعر بقناعة متزايدة بأنها تحتاج اليوم قبل كل شيء إلى عودة السلم الأهلي. والمجتمعات ذات الطبقات الوسطى الواسعة مثلما هو الحال في تونس متعلقة أيما تعلق بحرياتها المكتسبة حديثا. ولكنها تولي أهمية كبرى أيضا للاستقرار والأمن كعاملين ضروريين للحفاظ على مستوى معيشتها. وهي لذلك غير مرتاحة للتنازع المستمر بين السياسيين وتود استعادة التحكم في حياتها. وهي ترغب من النخب الحاكمة أن تكون أكثر استجابة لحاجيات الناس العاديين. وأمام تصاعد العنف وتدهور الأوضاع الاقتصادية, هناك إجماع متزايد على إن هامش الوقت بدأ ينفذ في ظل غياب الإجماع بخصوص الحلول اللازمة للمشاكل القائمة. وإذ يبدي معظم الناس في المغرب والمشرق العربيين حساسية بالغة تجاه أي مظهر من مظاهر التدخل الأجنبي، فإنه من البديهي أنه عندما يفشل الفرقاء المحليون والإقليميون في حل الخلافات القائمة بينهم، لا مفرّ من الوساطات الدولية التي تدفعها الخشية من توسع رقعة تلك الخلافات على مستوى المنطقة بأكملها. وما تخشاه المجموعة الدولية عموما هو أن تستعر نار النزاعات الأهلية وأن تنتشر عوامل عدم الاستقرار والفشل على مستوى العالم العربي بشكل أوسع مما عليه الحال الآن. ولكنه مثلما أظهرت ذلك الأزمة المصرية, فإن الوسطاء الأجانب لا يستطيعون وضع مسار المصالحة الوطنية على السكة إذا كان الفرقاء في الداخل غير راغبين في ذلك. والسؤال الذي يطرح نفسه اليوم هو هل لا تزال هناك إمكانية للمصالحة في مصر بعد الضربة القاسية التي تلقاها «الإخوان المسلمون» في غشت الماضي؟ ربما يبقى ذلك الاحتمال واردا على المدى البعيد. ولكن الأحداث الدموية للرابع عشر من غشت جعلت احتمالات المصالحة الوطنية في مصر معقدة وبعيدة المنال. ومثلما كتب إبراهيم نجم، أحد كبار مستشاري مفتي مصر بعد يوم من الأحداث: «مصر التي شهدت مظاهر احتفال وبهجة أمام صور القتلى ليست مصر التي يجب أن نطمح إليها أو نرتاح لها». غير أن التطورات الحاصلة في مصر قد تكون ساهمت في إقناع القيادات السياسية في عدد من بلدان الربيع العربي الأخرى بالمخاطر الكامنة في الصدامات التي يحاول فيها كل طرف التنكيل بالطرف الآخر. وفي تونس مثلا دعا زعيما حزبين من الترويكا الحاكمة، وهما حزبا «النهضة» و»التكتل»، إلى «المصالحة الوطنية الشاملة». وكذلك فعل رئيس أبرز أحزاب المعارضة الوطنية وهو حزب «نداء تونس». وكتب المعلق محمد القاسم في صحيفة «الضمير»، ذات المنحى الإسلامي، أن «خط المصالحة الوطنية هو الخط الوحيد القادر على قطع الطريق أمام كل المشاريع الاستئصالية والاستبداد والفكر الانقلابي ومؤامرات افتكاك السلطة». أما المعلق الليبرالي نزار بهلول فأكد في مقال له أن المصالحة الوطنية هي ما تنتظره المجموعة الدولية من تونس. وليس من باب الصدفة أنه بعد أحداث القاهرة شهدت تونس التخلي عن مشروع قانون يرمي لإقصاء المسؤولين السابقين من الحياة السياسية. وتم إطلاق سراح عدد من كبار المسؤولين السابقين. قد لا تكون المصالحة الوطنية هي الحل لكل المشاكل في البلدان العربية التي تمر بمراحل انتقالية. ولكن دون مصالحة وطنية تبدو إمكانية الانتقال السلمي منعدمة. وكما قال القس دزموند توتو في جنوب أفريقيا: «لولا معجزة التسوية التفاوضية لغرقنا في بحر الدماء الذي توقعه الجميع». وبفضل مسار الحقيقة والمصالحة استطاعت بلاده أن تتحرر من ربقة الماضي البغيض وتبني مستقبلا مزدهرا. واعتبارا لكوني واحدا من أولئك الذين يصفهم البعض «بالأزلام» فإن دعوتي إلى مسار للمصالحة الوطنية قد تبدو نابعة من مصلحة ذاتية. لكن كل الأطراف السياسية بلا استثناء يمكن في الواقع أن تستفيد من مثل هذا المسار. ودون هذا المسار لن يستطيع الفرقاء السياسيون لمرحلة ما بعد الربيع العربي حتى مجرد التعايش في إطار الحدود الحالية لبلدانهم. ومسار المصالحة يمكن أن يكشف عن الحقيقة كل الحقيقة للجميع. وما هو أهم من ذلك هو ان هذا المسار هو الوحيد الذي يمكن أن يفتح الطريق نحو التقدم إلى الأمام وبناء المستقبل. والأكيد أن الإصرار على إذلال الخصوم السياسيين والقضاء عليهم سوف يزرع فقط بذور فصول جديدة في مسلسل القمع والعنف. لذلك فإن المصالحة الوطنية قد تشكل في نهاية المطاف الثورة الثانية الحقيقية للربيع العربي. * المقال ترجمة لمقالة بالانكليزية نشرت في مجلة «وورلد افيرز جورنال» وهي مجلة أميركية مختصة في الشؤون الدولية