للوهلة الأولى، لا تبدو الأمور على ما يرام في دول الثورة والتغيير العربية. هذا، ناهيك عن المجزرة اليومية التي تشهدها سورية. فهل تحول «الربيع العربي»، إن استخدمنا المصطلح الاستشراقي لحركة الثورة العربية، إلى شتاء؟ عاشت تونس، منذ الأسبوع الأخير من يناير، ولثلاثة أسابيع تالية، أزمة سياسية من الصنف السوريالي. كان حزب النهضة، الذي يمثل الكتلة الأكبر في الجمعية التأسيسية التونسية ويترأس أمينه العام الحكومة الانتقالية المنتخبة، ووجهت بمطالب من أحزاب المعارضة ومن شركائها في الائتلاف الحكومي، بالتخلي عن الوزارات السيادية وتحييد هذه الوزارات عن الولاءات السياسية. خلال أيام قليلة، وبالرغم من موافقة النهضة على التعديل الوزاري، تطورت المطالب إلى تنحي حكومة الائتلاف الثلاثي وتشكيل حكومة وحدة وطنية، وحل الجمعية التأسيسية وتشكيل لجنة من الحكماء لوضع مسودة الدستور التونسي الجديد، المفترض أن تضعه الجمعية التأسيسية المنتخبة. وفي خضم الجدل حول مستقبل الحكومة والائتلاف الثلاثي الذي شكلها، فاجأ السيد حمادي الجبالي الساحة السياسية ورفاقه في حزب النهضة باقتراح تشكيل حكومة جديدة من «الخبراء». أما لماذا كان يجب أن تشكل حكومة خبراء، يقودها أمين عام حزب رئيسي ومناضل سياسي كبير، فكان سؤالا لم يجب عنه الجبالي. المشكلة، بالطبع، لم تتعلق بأداء هذا الوزير أو ذاك، بل بأداء الحكومة ككل، وبجملة أوضاع البلاد بعد عام كامل على تشكيل هذه الحكومة. إن اقتصاديا أو أمنيا، تمكنت حكومة الجبالي من التعامل مع التحديات التي تواجهها تونس ما بعد الثورة؛ كما أن انتقادات واسعة وجهت إلى نهج الجبالي في إدارة حكومته. المهم، ما اتضح خلال ساعات هو أن الأمين العام للنهضة لم يستشر حزبه، قيادة أو قواعد، قبل أن يتقدم بمقترح حكومة الخبراء، وأن حزب النهضة سرعان ما رفض المقترح، مؤكدا حاجة البلاد إلى حكومة تحالف وطني واسعة، تتمتع بدعم برلماني وحاضنة سياسية. تلقت النهضة مساندة لموقفها من عدد آخر من الكتل البرلمانية، بينما وقف إلى جانب مقترح رئيس الحكومة أغلب قوى المعارضة، بما في ذلك حزب نداء تونس الذي يقوده رئيس الحكومة السابق وأحد مخضرمي السياسة التونسية، البورقيبي باجي قايد السبسي. في النهاية، ونظرا إلى أن معسكر النهضة وحلفاءها تحكم في أغلبية تصل إلى ثلثي أعضاء الجمعية التأسيسية، وجد حمادي الجبالي أن لا مناص من الاستقالة. دستوريا، انتهت الأزمة عند هذا الحد، ولاسيما بعد أن رشح حزب النهضة، مؤيدا من حلفائه، السيد علي العريض، القيادي الآخر البارز في النهضة، ووزير الداخلية في حكومة الجبالي، لقيادة الحكومة الجديدة. سياسيا، لا يبدو أن تشكيل العريض للحكومة سيكون نهاية الأزمة، ولاسيما أن ثمة شهورا طويلة لم تزل تفصل تونس عن وضع الدستور وعقد انتخابات برلمانية ورئاسية. في مصر، تبدو الأزمة مختلفة قليلا. تعود جذور التأزم المصري، في مرحلته الراهنة، إلى الأسبوع الأخير من نونبر، عندما أصدر الرئيس محمد مرسي إعلانا دستوريا مكملا، قصد به الرئيس الإسراع بالمرحلة الانتقالية، وأثار جدلا واسعا في البلاد. أتاحت مشكلة الإعلان الدستوري لقطاع ملموس من القوى المعارضة للتيار الإسلامي (ومن ثم لحزب الحرية والعدالة الإخواني، والرئيس مرسي) تأسيس تحالف معارض باسم جبهة الإنقاذ. خلال الشهور التالية، أصبحت الجبهة عنوان المعارضة لسياسات الرئيس وكل ما يصدر عنه من قرارات، جملة وتفصيلا. عارضت الجبهة مشروع الدستور المصري الجديد، ودعت الشعب إلى التصويت ب»لا» في الاستفتاء عليه. ولكن خسارة الجبهة في الاستفتاء كانت كبيرة. وعارضت الجبهة الحكومة المصرية الانتقالية، التي يقودها هشام قنديل، ودعت إلى إقالتها، بالرغم من أن شهورا قليلة تفصل مصر عن انتخابات برلمانية جديدة، وعن تشكيل حكومة أغلبية برلمانية، وبالرغم من أن أداء قنديل ووزرائه، في ظل ظروف اقتصادية بالغة الصعوبة، أداء جيد. وبالرغم من محاولاته المتكررة لإلحاق المعارضة بحوار وطني، يستهدف التوصل إلى التوافق على مسائل الخلاف الرئيسية، رفض المعارضون دعوات الرئيس. في الأيام الأخيرة، وبعد إعلان مرسي، ملتزما بالنص الدستوري، عن الدعوة إلى انتخابات برلمانية، تبدأ في الأسبوع الأخير من أبريل المقبل، لوحت قيادات جبهة الإنقاذ بمقاطعة الانتخابات، معربة عن تأييدها لمحاولات العصيان المدني التي تتعهدها حفنات متفرقة من نشطاء أحزاب الجبهة. ما يحدث في تونس ومصر هو الأهم بين دول الثورة والتغيير العربية، نظرا إلى أن البلدين انتهجا، إلى حد كبير، نهجا قانونيا لتنظيم عملية الانتقال إلى نظام ديمقراطي، حر؛ وأن العملية الانتقالية في البلدين مضت، حتى الآن، بأقل درجة من التدخلات الأجنبية. وبالرغم من أهمية التجارب العربية الأخرى، سواء في الدول التي اختارت طريق الثورة أو تلك التي اختارت طريق الإصلاح، الأبطأ والأكثر تدريجية، فالأرجح أن نموذج الانتقال العربي يرتبط بتونس ومصر أكثر منه بأية دولة عربية أخرى. فلماذا لم تنجح تونس ومصر في الخروج من مسلسل أزمات ما بعد الثورة، ومن المسؤول عن تفجير هذه الأزمات؟ بداية، لا بد من الإشارة إلى أن حركة الثورة العربية لم تزل الأقل عنفا، والأقل اضطرابا، والأسرع استقرارا، من الثورات الشعبية الكبرى الثلاث، التي أسست لفكرة الثورة الشعبية في العصر الحديث: الفرنسية والروسية والإيرانية. شهدت كل من الثورات الثلاث مقتل مئات الألوف، سواء في نضال الشعب ضد الاستبداد أو في خضم الصراع على الحكم والسلطة بعد التخلص من أنظمة الاستبداد؛ كما استمرت حالة الاضطراب السياسي والاجتماعي لعدة سنوات بعد نجاح الثورة. قياس حركة الثورة العربية بموجة التحول الديمقراطي التي شهدتها أوربا الشرقية والوسطى عشية انهيار الكتلة الشيوعية هو قياس في غير محله، ليس فقط لأن انهيار الأنظمة الشيوعية واكب لحظة تحول جيوبوليتيكية كبرى في مقدرات القارة الأوربية وحسب، بل أيضا لأن أوربا الغربية والولايات المتحدة وفرتا حاضنة مرجعية للأنظمة الجديدة، سواء من جهة توفير نموذج الحكم والدولة، من جهة توفير الإطار الاستراتيجي الآمن، أو من جهة الدعم الاقتصادي والمالي الكبير. في دول الثورة العربية، ثمة عدد من التحديات البارزة، تتقاسمها هذه الدول معا، ويبدو أنها ستأخذ بعضا من الوقت قبل أن تحسم: الأول، ويتعلق بسلوك المعارضة وفهمها لمجتمعاتها ومعنى التحولات السياسية التي يمكن أن تنجم عن حدث الثورة. كل دول الثورة العربية، وربما كل دول المجال العربي، شهدت صعودا مثيرا لقوى التيار الإسلامي السياسي خلال العقود القليلة الماضية. بعض هذه القوى هو في أصله غير ديمقراطي، ويفتقد المرونة الكافية للتعامل مع، أو إدارة آلة، الدولة الحديثة، وبعضها الآخر يعتبر أكثر ديمقراطية وبراغماتية. وصلت القوى الإسلامية إلى مقاعد الحكم، بعد استبعاد وتهميش طويلين، في عدد من دول الثورة والتغيير والإصلاح العربية بإرادة الشعب وشرعية صندوق الانتخابات. التعاون مع هذه القوى والالتفاف حولها، سواء من موقع الائتلاف السياسي أو المعارضة البناءة، سيصب لصالح الانتقال السريع نحو حكم ديمقراطي، حر، وأكثر عدلا. الرفض الاستئصالي لهذه القوى، الذي يبدو أنه خيار أغلب قوى المعارضة التونسية والمصرية، لن يؤدي إلى إسقاطها من الحكم أو إلغاء وجودها في الساحة السياسية، بل إلى أنظمة حكم جديدة تنزع منزعا أمنيا وتسلطيا، حتى إن كانت ديمقراطية وتعددية الواجهة. الثاني، أن دول الثورة والتغيير العربية، باستثناء ليبيا، تواجه أزمة اقتصادية ومالية عامة مستحكمة، ليس فقط لأنها ورثت اقتصادا مشوها وعواقب أنظمة فساد مؤسسي وحسب، بل أيضا لأن حدث الثورة ذاته هو حدث مصحوب بمناخ من الاضطراب والتوتر والقلق، السياسي كما الاقتصادي الاجتماعي، والتوقعات الكبيرة، معا. لم تجد دول الثورة العربية دعما اقتصاديا خارجيا كافيا، كما وجدت دول أوربا الشرقية في التسعينيات، وأصبح عليها الاعتماد على النفس، إلى حد كبير، من أجل الخروج من عنق الزجاجة المالي الاقتصادي. وهنا أيضا، لا يبدو أن المعارضات السياسية تلعب دورا بناءً، أو حتى دورا وطنيا. عندما يستخدم الشارع، بمبرر وغير مبرر، وبالطريقة التي تستخدم فيها المعارضة التونسية والمصرية الشارع، لإحراج أنظمة الحكم الجديدة، وإظهارها بمظهر الفاقد للسيطرة والعاجز عن الاستجابة للمطالب الشعبية، لا تقدم المعارضة أية خدمة تذكر للاقتصاد الوطني. وعندما تستخدم عصابات الشغب والخارجين عن القانون من أجل قطع الطرق والسكك الحديدية، أو من أجل فرض عصيان مدني على عموم المواطنين، يصبح من الصعب توجيه اللوم إلى الحكام الجدد على استمرار الصعوبات المالية والاقتصادية. الثالث، أن دول الثورة والتغيير العربية، وبالرغم من المحاولات الحثيثة طوال عقود لإقناع العرب بأنهم ليسوا أمة واحدة، ولن يكونوا، هي جزء من مجال عربي واسع، متعدد الدول والتوجهات والظروف. ثمة دول عربية قابلت حركة الثورة في منتصف الطريق، وبادرت إلى انتهاج سياسة إصلاحية تدريجية، ودول أخرى تستعصي على الإصلاح وتبذل كل جهد ممكن من أجل إفشال تجربة الانتقال الديمقراطي في دول الثورة والتغيير، أو أنها تخشى صعود قوى إسلامية ديمقراطية إلى سدة الحكم لما يمثله هذا التطور من تهديد للسياسات الإسلامية المناهضة للديمقراطية والحريات. في حالة مصر، بصورة خاصة، يشكل استقرار الدولة الجديدة وطموح قادتها إلى استرداد دور البلاد النشط والفاعل في المحيط العربي تهديدا من نوع آخر لأطراف تضخمت أدوارها في غيبة الدولة العربية الكبرى. لا تنشط هذه الدول العربية لإجهاض المسار الانتقالي وحسب، بل وتلعب أدوارا متفاوتة في تعزيز مخاوف الدول الغربية من الأنظمة العربية الجديدة. لا تبدو الأمور على ما يرام في دول الثورة والتغيير؟ نعم. ولكن لا تجب المبالغة في تصوير البطء والتعثر في المسار الانتقالي لهذه الدول. لم تزل أوضاع دول الثورة العربية أفضل بكثير من سابقاتها من الثورات الشعبية في العالم. ما يشهده المجال العربي منذ عامين ونيف ليس أقل من انعطافة تاريخية كبرى، لا يجب أن تقاس نتائجها بالشهور والأسابيع.