نواجه اختناقا بسبب الأيديولوجيا. حيثما تتوجه، تجد أن الافكار المقولبة بإطارات دينية وسياسية، بل وحتى اجتماعية، تطاردك. الحياة اليوم، في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على وجه الخصوص أو في أرجاء العالم، عادت لتحكم بالمبرر الأيديولوجي. حتى الردود عليها أيديولوجية. في مواجهة مد ديني متزمت، تجد ردودا علمانية متزمتة. ربما لا يفل الحديد إلا الحديد، ولكن انظروا إلى كميات حديد الخردة الإنسانية المتراكمة من هذه المواجهات. المشهد يبدو وكأن العالم تحول إلى أكوام متعاقبة من الحديد الصدئ من معارك سابقة. لا أستطيع البت بأسلوب المواجهة للخروج من الأسر الأيديولوجي السائد. ربما أتمكن من الحديث عن أساليب الكشف. هذه مهمة صحفية وأخلاقية. التستر بالدين أو بالاشتراكية أو بالقومية أو حتى بالشعبوية هو الطبيعي لمثل هذه الأشياء. الكشف عنها هو الموقف الطبيعي المضاد. يحتاج إلى دقة وموضوعية لتكون الحقائق واضحة أمام الجميع، بمن فيهم ممن يؤمنون بتلك الأيديولوجيات. لكن ثمة جانبا يمكن الخوض فيه. مقابل هذا التمترس الأيديولوجي، لماذا لا نحاول شيئا من العبثية؟ لسنا مضطرين لإنتاج أيديولوجيات مضادة. دعونا مثلا نتلهى بأشياء أخرى ساذجة أو غير منطقية أو بلا معنى قائما بذاته. إنه نوع من التشتيت الذهني الذي يقاوم خطاب الأيديولوجيا الذي قطع علينا كل المنافذ بسبب قدراته الكبيرة، وخصوصا منصاته الإعلامية المتكاثرة. درسنا في التاريخ الكثير عن الشعر. ثمة أوجه كثيرة للشعر تعبّر عن مراحل مختلفة. لكننا قبل أن نصل إلى العصر الحديث، يقولون لنا إننا مررنا بعصر الانحطاط. خذ هذا البيت الذي ينسب إلى أبي الحسن ابن سودون ويضرب به المثل عن تردي حالة الشعر: ابن سودون عاصر حكم السلاطين المماليك في مصر. دعونا نتخيل تلك الفترة من تقلبات الحكم ورد فعل الشاعر أمامها. فبإسم الإسلام والخليفة العباسي المختفي، تقلد 14 سلطانا مملوكيا حكم مصر. كيف سيكون رد فعل الشاعر وكيف يمكن أن يكون جديا. استقوى على الواقع بالعبث. الأيديولوجيا مخيفة، كما صرنا نعرف ربما أكثر من غيرنا. تستطيع أن توجه حياة الأمم بطريقة لا يمكن تخيلها. خذ مثلا الأهرامات. استطاعت الأسر التي حكمت مصر من أن توجه البلاد كلها لمشاريع وطنية هدفها من يبني القبر الأكبر والقبر المثالي هندسيا. أراد الفراعنة أن يخلدوا، فجعلوا الخلود مشروعا أيديولوجيا بالبداية، ثم سخّروا كل إمكانيات الدولة لبناء أهرامات أكبر وأدق. الجهد الهندسي والمالي للدولة، باللغة المعاصرة، كله مخصص لبناء قبر. حلم الجماهير هو إنجاز القبر الذي سيرقد فيه الفرعون انتظارا للحياة الأبدية. مئات الألوف من المصريين اشتغلوا لعشرات السنين في مشروعهم القومي-الحلم. لكن، دعونا نتحرك في شريط الزمن إلى الأمام، ونصل إلى قاعة من قاعات الفرعونيات في المتحف البريطاني في لندن. سنشاهد الكثير من التماثيل الجميلة للفراعنة أو وزرائهم أو أبنائهم أو زوجاتهم. قطع فنية حقيقة بالمقاييس التشكيلية المعاصرة. لكن في ركن من أركان صالات العرض سنجد صندوقا زجاجيا فيه تابوت ومومياء. هكذا يتحول المشروع القومي لمصر الفرعونية إلى مجرد فرجة لزوار المتحف البريطاني وكثير من المتاحف المصرية. فلنفترض جدلا أن مومياء الفرعون المسجّى فتحت عينها في تلك اللحظة ووجدت وجوه السياح الصينيين واليابانيين الشهيرين بكاميراتهم وصورهم وهي تطل عليها. أكيد أن الفرعون المعني سيحس بالإحباط وسيستسخف مشروعه الأيديولوجي للسرمدية. لو انتقل هذا الفرعون ليرى حالة الفوضى على حافة نزلة السمان في الجيزة، سيجد أن أهراماته صارت مزارا سياحيا لجمع المال واستقطاب السياح وأنها مواقع لأخذ صور سيلفي لا أكثر. سيتكرر الأمر في أوروبا التي أغدقت على نفسها بالكنائس وباللوحات الدينية. ثم عادت وأغدقت بشكل أو آخر بترميزات الحكم النازي والفاشي الإيطالي والشيوعي في الاتحاد السوفييتي. ثم تحولت الأمور إلى ما يشبه النكت تسخر من فهم للأمور من بوابة أيديولوجية لا ترحم وتعتبر أن ما كان هو من صميم الحس الوطني. الجداريات الإيرانية عن الشهداء والأئمة ومقاومة الاستكبار العالمي هي جهد أيديولوجي مثله مثل ما تركه القدماء لنا من صروح، أو بقايا العصور المظلمة في أوروبا أو تركات عصور ما بعد التنوير لهتلر وموسوليني وستالين. الفرق أنها مستمرة وتحتاج موقفا عبثيا في مقاومتها بدلا من مشاريع أيديولوجية متكاملة ورصينة. "وفسر الماء بعد الجهد بالماء". لمَ لا؟ نقولها ونضحك. بدلا من أن نستمع إلى خطبة عصماء لا معنى لها.