بداية ، تجدر الإشارة أو بالأحرى التذكير بمسألتين: الأولى هي ضرورة النظر إلى الحكومة في الحالتين /الواقعتين بغير قليل من التنسيب. لم يسبق لنا أن تجاهلنا هذا النظر فيما كتبنا عن الموضوع. وإذ نعيد ،الآن ، التذكير بحكومة التحالف / التناوب التوافقي التي عمرت 13 سنة ، والتي يهمنا منها أساسا محطة ذ عبد الرحمان اليوسفي الوزير الأول الإتحادي والكاتب الأول لحزب الإتحاد إ ق ش مابين 1998 و2002 ، وبالحكومة التحالفية للأستاذ عبد الإلاه بن كيران رئيس هذه الحكومة والأمين العام للعدالة والتنمية .قلت ، إذ نعيد التذكير بهذا المنطق التحالفي الضروري ( لايخلو تذكير ذ عبد الله العروي بذلك في حواره الأخير مع مجلة زمان ع 18 أبريل 2012 من معان سياسية ومنهجية عميقة يتغافلها الكثيرون ،خاصة من العدالة والتنمية نفسه..) فالتنبيه الى حالة قوية من التشابه السياسي بين التجربتين ، رغم فارق السياق العام طبعا، التشابه الناتج عن منهجية وطبيعة التعددية الحزبية ببلادنا ..وعن التعدد السياسي والفكري في المجتمع المغربي طبعا .لايهمنا ، هنا ، المدى العددي لهذه التعددية من جوانب السلب والإيجاب ، ولا عوامل ودواعي هذه التعددية ، قدر مايهمنا وجودها الواقعي والوقائعي بمعنى دورها في الوقائع والمؤسسات السياسية كما هو (= هذا الدور).الأجدر بالتنبيه ، هنا أيضا ، هو حضور حزبي الإستقلال والتقدم والإشتراكية في التجربتين معا..هل يمكن أن يفيد هذا أن العدالة والتنمية كان حضوره الحكومي ممكنا خلال التجربة الأولى ؟ لايسعنا هنا إلا التذكير بسياسة « المساندة النقدية « التي أبداها اتجاه حكومة ذ عبد الرحمان اليوسفي في بدايتها ،قبل أن ينعطف صوب معارضة صريحة رافعا من صبيب إيديولوجيته خبط عشواء. وهل يمكن أن يفيد هذا ، بالمقابل ، أن حزب الإتحاد الإشتراكي كان بالإمكان أن يكون ضمن تشكيلة حكومة ذ بنكيران الحالية لو لم ينتفض مجلسه الوطني منتبها ومنبها الى صوت إيديولوجية الحزب التي هزل صبيبها ؟ الثانية تهم الإيديولوجيا كمفهوم / خلفية فكرية ، وكممارسة ميدانية بالقول أو بالفعل..،إذ يعنينا في هذا المقال مقارنة « الإيديولوجيا « في التجربة الحكومية للحزبين ، من جانب درجتها ومداها ، حتى والقياس صعب ،بل ومستحيل في مثلها ، ومن جانب طبيعتها ومرجعيتها الفكرية والسياسية ، ومن جانب مدى « تطابق « النظر والفعل بها ،ومن جانب مفهومها الإيجابي كأمل أو كحلم للتغيير مسنودا برؤية ما للمجتمع والدولة والتاريخ والعالم (= الطوبى)،ثم من جانب مفهومها السلبي كخطاب تبريري أو تعتيمي أو تزييفي أو شعبوي تنطعي (= الدوغما ). وقد ارتأينا أن « الصبيب « كمنسوب جغرافي نهري يسعفنا في هذا المقال عنوانا ودلالة وكناية.. نبادر الى القول دون تردد أن صبيب الإيديولوجيا كان ضعيفا خلال تجربة حكومة التناوب التوافقي الأولى . المقصود هو الإيديولوجيا الإتحادية الإشتراكية الديمقراطية التي طالما غذت وقوت الإتحاد إ ق ش وهو في المعارضة .المقصود هو قيم مثل الحرية والعدالة الإجتماعية والعقلانية والحداثة والتخليق..والحقيقة أولا..والإصلاح والتنمية المستدامة والمرأة والشباب..إلخ. لايسع أي ملاحظ موضوعي إغفال ماتم خلال هذه التجربة من منجزات وإصلاحات كبرى من مثل مدونة الأسرة ، وجبر ضرر زمن الرصاص ، وحرية الإعلام ، والأوراش الإقتصادية التنموية الكبرى..لكن مدونة الأسرة حبذا لو كان الحسم فيها حكوميا على يد ذ اليوسفي ..ومنتدى الحقيقة والإنصاف ثم المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان هما من نشطا أكثر وأكبر سياسة جبر الضرر..والأوراش الكبرى تجد دوما من ينسبها الى جلالة الملك وحده..لقد مر وزراء الإتحاد الإشتراكي في البداية من دهشة ومفارقة الإنتقال من خطاب المعارضة الى تقنية التدبير الحكومي الرسمي .وهذا قد يكون أمرا عاديا بالنسبة لحزب تمرس طويلا على المعارضة ، وبات يظن ، ربما ، أن تطبيق خطابه هو من السهولة التي لا تتطلب إلا أخذ زمام الحكومة دون اكثرات عميق بالإكراهات العويصة في المجتمع والدولة.يمكن اعتبار عرض ذ اليوسفي المشهور ببلجيكا كشفا ونقدا متأخرا للإكراهات الدولتية بخاصة. ويمكن اعتبار ذ بن كيران في وضعية أحسن من وضعية ذ اليوسفي بالصلاحيات التي خولها له دستور فاتح يوليوز 2011 . مهما يكن ، ومع توالي تجربته الحكومية أمسى الإتحاد الإشتراكي أكثر انصهارا وتمثلا للمنطق الدولتي ، حيث أصبح بعض وزرائه رجالات دولة ، وهي على كل حال مزية إيجابية وجيدة ، أكثر منهم رجالات الحزب ، وهذه ليست مزية أصلا . ولنا في سياسة وزير المالية ذ فتح الله ولعلو الناجحة في الحفاظ الممتاز على صحة وسلامة التوازنات المالية الكبرى للدولة مثالا طيبا.نعم قد يكون هذا أمرا جيدا.إلا أنه زاد في تفقير الصبيب الإيديولوجي الإتحادي في مجتمع لا يفهم من الحكومة أو الدولة إلا بقدر وطبيعة ماتعطيه. وهكذا يجد الإتحاد الإشتراكي الداعم لهذه المنجزات والإصلاحات والمعتز بها ،خارجها..ربما ساهم هذا موضوعيا في إضعاف صبيب الإيديولوجيا الإتحادية . ولايجب أن ننسى ، أيضا ،أن مخيال الإشتراكية الديمقراطية عالميا تطبّع بسياسة البين بين ، أو الطريق الثالث ..وأصبح من الصعب عليه ،اليوم ، إبداع أفكار كبرى مميزة ومخلخلة. لقد تصرف الحزب بمنطق مصلحة الوطن قبل مصلحة الحزب كما ظل يردد ،لكن الإنتظارات العريضة والآملة لناس هذا الوطن من الحزب ، والتي كانت أقوى وأصعب وألح من أن يلبيها الحزب ، ثم وفاء الحزب دون كلل وطيلة 13 سنة لمفهومي « ميثاق الأغلبية « و « ميثاق الكتلة « ، حتى وهو يأكل العصى من هذه الأغلبية وهذه الكتلة .لنتذكر ، هنا ، النار التي فتحها الوزير الإستقلالي ورأس الحزب ذ عباس الفاسي ، الشريك الأغلبي والكتلوي ،على ذ اليوسفي بشأن تراجع منسوب الإسلام في الحكومة..كل هذا وغيره زاد في نضوب الصبيب الإيديولوجي للحزب .وقد كان بإمكان انتخابات 2002 التشريعية التي حافظ فيها الحزب على رتبته الأولى أن تستأنف وتواصل رفد الصبيب الإتحادي . لكن اكتفاء الحزب ، فقط ، بالتنديد بالخروج عن المنهجية الديمقراطية مع استمراره في التوافق الحكومي الأغلبي أصاب هذه الإمكانية في مقتل مما سيعمق نزيف الصبيب الإتحادي حتى استيقظ على حصيلة انتخابية عجفاء على التوالي عامي 2007 و2011 حصيلة لاتليق بتاريخ ومقام الحزب الذي بدا ، أيضا ، وكأن الجهاز الحكومي هو مسك أو عسل الختام لإيديولوجية وطنية ديمقراطية ناضلت طويلا ومريرا ،إذ اكتفى كباره بالحكومة وتعطل التفاعل اللازم الناقد المتشارك بين الحزب والحكومة ، وبين الحزب وبرلمانييه ، وبين أجهزة وقطاعات الحزب أفقيا وعموديا ، وبين الحزب والمجتمع تاليا..في وضعية كهذه لا يمكن للإيديولوجية الإتحادية أن تشع وتتقوى ، فأحرى أن تؤول الى الإبداع والإغناء الفكريين السياسيين. وهذا موضوع يسائل حتى علاقة الإتحاد وجريدته ومثقفيه ببعضهم أولا..وبعموم المثقفين والأجهزة والجمعيات الثقافية المدنية ؟؟( كلنا يتذكر الرد العنيف لشاعر الحزب ورئيس اتحاد كتاب المغرب وقتذاك حسن نجمي على القاص أحمد بوزفور لما عبر عن رفضه للجائزة المعلومة.). الحزب كان ، أيضا ، المادة المفضلة التي اكتشفتها شهية الحرية عند الإعلام « المستقل» واليساري واليميني.. كان من المطلوب أن يجنح الحزب ، وأن تجنح معه أحزاب اليسار الى الدفاع معا عن التقاطع الإيديولوجي الذي يجمعهم ، لكن الذي وقع أن ذوي القربى صبوا ،أيضا، جام غضبهم ونقدهم للسيد اليوسفي وحزبه فتكسر ، مثلا ، نصل نقابة الك د ش الى اثنين..وسارت الركبان بمقولات مثل « اليسار الحكومي « و « اليسار المخزني» ،واختار الحزب شعار: أرض الله واسعة ،اتجاه أهل الدار وعموم اليسار..في وضع يخطىء أهدافه وخصومه كهذا ..لايمكن لا للإيديولوجيا الإتحادية ولا لإيديولوجيا اليسار ككل أن تنتعش وتنتشر سيما في ظل الذيوع المدوي لإيديولوجيا نقيضة كإيديولوجيا الإسلام السياسي بكل أنواعه. لقد ظل الإتحاد الإشتراكي يردد باستمرار مفهوما إيديولوجيا قويا فكريا وسياسيا وثقافيا وإجتماعيا هو مفهوم « المجتمع الحداثي الديمقراطي». لكن قوة هذا المفهوم ظلت دون آثار بارزة في سياسة تدبير الواقع المغربي ، بل يمكن القول أن هذا المفهوم ظل شعارا دفاعيا وخطابيا وإعلاميا دون أن يرتقي الى قوة مادية رائجة ومؤثرة في المجتمع . لايكمن الخلل هنا في أن الملك نفسه والحكومة إقتنعا معا بهذا المفهوم وظلا يرددانه طويلا أيضا..الخلل يكمن ، برأينا ، في ضعف الأجرأة السياسية والأجتماعية والثقافية والتربوية للمفهوم في الواقع، بحيث ظل المفهوم عامّا عائما وكأنّه مكتف بذاته لذاته ،أو وكأن قوته تكمن فقط في اجتراره الخطابي الإعلامي كعلبة سحرية جاهزة غامضة فاعلة من تلقائيتها. ويكمن الخلل ، ثانيا ، في تحول المفهوم الى موضة سياسية يدعي لبسها والتّزيّن بها الكل..حتى غاب التمايز والإختلاف الإيديولوجي بصدده، وهذه على كل حال ،من بين أثمنة وماركات التوافق ( ليس هذا مشكلا كبيرا.. ) ، الذي بلغ من العمر عتيا (هذا هو المشكل الأكبر..) مما سيضر طبعا الإيديولوجيا الإتحادية الحداثية بالتعويم والإبتذال. دون تردد،أيضا،نقول ،وعمر حكومة ذ بن كيران لم يتجاوز الشهر الرابع بعد ،أن الصبيب الإيديولوجي للعدالة والتنمية مرتفع زيادة. هل هو الإنتشاء الكيميائي الدافع و « المتدافع « والمندفع بالنتائج الإسلامية الإنتخابية التي أسفر عنها هذا المسمى حراكا عربيا ومغربيا ؟ هل هو رد مضاد مطمئن الى شرعية إنتخابية راجحة ليشهر هنا وهناك الأسلحة المحافظة المتعلقة بالهوية و» ثوابت الأمة» والأخلاق وغيرها ؟ أقول رد مضاد لأن إيديولوجية تنظيم ديني محافظ لايمكن أن تعيش وتتعشى بدون عدو ( لاأقول خصم..) حقيقي أو مصطنع. إشهار هذه الأسلحة يلقي الكثير من الضوء والتفسير على قول ذمحمد الحمداوي رئيس حركة التوحيد والإصلاح ب «إستصحاب البعد الدعوي لمشاركتنا السياسية « هذه النحن تقطع كل مع كل لبس يفرق بين العدالة والتنمية والتوحيد والإصلاح..والمهم هو أن المشاركة السياسية ،عند السيد الحمداوي ،» تقاس بحجم النجاح الدعوي أكثر مما تقاس بحجم النجاح الإنتخابي « ( نقلا عن يونس دافقير الأحداث المغربية ع 4646 ليوم 24 ? 04- 2012 ).كلام السيد الحمداوي يعني الكثير الكثير .. وأهم مايعنيه ويستهدفه هومقولة « تحقيق الإمكان الحضاري «.التي تنطوي على عدة دلالات دوغمائية منها أسلمة الدولة والمجتمع..ولايعنينا ، هنا ، من كلامه إلا إستخلاص أن وزراء العدالة والتنمية في الحكومة يتحركون ،أو على الأصح يتكلمون بخطة وهدف مشترك دعوي - سياسي ،أو دعوي قبل وبعد سياسي.. فعلى عكس الإتحاد الإشتراكي ، يبدو العدالة والتنمية ، وهو يضخ الكلام في صبيبه الإيديولوجي هنا وهناك..يبدو وكأنه في الحكومة وحده دون حلفاء مكّنوه من الأغلبية..الحلفاء هم « مزية « التعددية السياسية التي يتجاهلها هذا التنظيم ، الذي أخاله متحسرا على أغلبية مريحة ،ولما لا مطلقة ،كان يمكن أن ينالها هذا التنظيم..فتعفيه من هذا الإحراج التعددي . قد يصح أن نقول ،هنا، أن الإتحاد الإشتراكي وارى إيديولوجيته الخاصة احتراما لمنطق التوافق.بينما العدالة والتنمية مايزال وفيّا لإزدواجيته المزمنة : فالتحالف مع الآخرين كان ضروريا لشرعنة وشرعية أغلبيته..لكنه غيرضروري لما يشهر هذا التنظيم إيديولوجيته الخاصة وكأنه وحده في الحكومة ، أو وكأنه الإصلاح والتوحيد في الحكومة..لهذا قد نفهم ،مثلا ،لماذا صفّق الإتحاد الإشتراكي المعارض لحادثة نشر المنتفعين بالرخص ،ولماذا غضب التقدم والإشتراكية الحليف الحكومي.. يتشابه العدالة والتنمية مع الإتحاد الإشتراكي مع حزب الإستقلال مع غيرهم .. بخصوص العلاقة مع الملكية .يتعلق الأمر ،هنا ، بالتشابه على مستوى السياسة الممارساتية وليس النظرية الإيديولوجية.قلنا أن مشروع / خطاب ( المجتمع الحداثي الديمقراطي ) كان مشروع / خطاب الملك والإتحاد الإشتراكي معا .وهذا كان أمرا واقعا فعلا.يقول العدالة والتنمية ، اليوم ، بشأن قضية التنصيب في المؤسسات الإستراتيجية العمومية أنه والملك على قلب واحد من التفاهم ولن « نخوض ( يقول بن كيران ) في نزاع مع الملك حتى نرضي هؤلاء العلمانيين « ...»المتحالفين مع الشيطان ..» وهو يقصد ، من بين ما يقصد ، المعارضة الإتحادية طبعا،على الرغم من أن الإتحاد الإشتراكي لايرتاح ، ربما ،للفظة علمانية ، وعلى الرغم ، قبل وبعد هذا ، أن العلمانية بريئة من تهمة الإلحاد وأنها فقط سياسة في / لتدبير أمور وحاجيات الناس في الدنيا ( بما فيها حاجياتهم الدينية والروحية) بمنطق علوم وفنون الدنيا ..وعلى الرغم ، أيضا ، من أن العدالة والتنمية طلب ود الإتحاد الإشتراكي ليكون معه في التشكيل الأغلبي الحكومي..ومهما يكن ، فالحديث عن عدم الثقة والنزاع بين الملكية والإتحاد الإشتراكي صار أمرا سخيفا.كل ما في الأمر أن هذا الحزب إحتجّ وعارض بشأن قضية التنصيب تلك اعتمادا على الصلاحيات التي يوفرها دستور فاتح يوليوز لرئيس الحكومة من حسن حظه.. ومادمنا في موضوع العلاقة مع الملكية يطرح الفقيه أحمد الريسوني معادلة تقول : كانت الناس على دين ملوكها ..بينما الملوك ،اليوم ، على دين ناسها أو شعوبها ..أو بالأحرى يجب أن تكون كذلك..يقولها وكأن الديمقراطية والإنتخابات التي توجت العدالة والتنمية في الصف الأول لم تعمل إلا على تزكية وتكريس إسلام المغاربة ..وكأن المغاربة أعيد فتحهم من جديد على يد هذا الفاتح العظيم..وكأن الأحزاب المكرسة سابقا كانت نصرانية ويصوت عليها النصارى..وكأن هذه الأحزاب كانت تحارب حزب الإسلام حتى شاء له الله والمسلمون / المغاربة الظفر..وكأن المغاربة كانوا على دين ملوكهم ،وهم كذلك فعلا، لكن ملوكهم كانوا نصارى يرغمون المغاربة على التنصير.. واليوم يجب أن يكون ملوك ( أو ملك..سيان ) المغرب على دين المغاربة الذي هو الإسلام ..أو بالفهم البسيط على ملك المغرب ،اليوم بالذات ، أن يجنح الى تكريس الدين والشريعة في كل دروب ومناحي الحياة ،مجاراة للفتح الإسلامي الجديد للمغاربة الذي إكتشفه أو حققه العدالة والتنمية ..وأن تكون إمارة المؤمنين الصفة الشرعية والوحيدة لحكم الملك كأضعف الإيمان في عرف هذا الفاتح ..أما كأقواه فأن تكون إمارة شرقية العقيدة والمذهب والهوى..وليس معتدلة سمحاء متفتحة تعمل بكل دأب على أن يعيش المغرب عصره وتاريخه معا..إن معادلة الفقيه الريسوني حقا إيديولوجية غنية متشعبة ،معادلة مبتدؤها وخبرها الدين والشريعة وحدهما. معادلة عمادها السياسي هوالعدالة والتنمية والدعوي هو حركة الإصلاحوالتوحي. لقد كان من المفهوم ،سوسيولوجيا وثقافيا ودينيا ،أن ينهج العدالة والتنمية في الحملة الإنتخابية التشريعية الأخيرة خطابا إيديولوجيا عماده الأخلاق والدين ومحاربة الفساد والرذيلة..أي خطابا شعبويا طهرانيا مدغدغا..يحيل فيه شعار « المعقول « على الأخلاق والإستقامة الدينية وليس على العقل والعقلانية طبعا..خطابا متيقنا بالفوز مسبقا ، وإلا فالتزوير سيكون سيدّا والكارثة ستحل وبالا..لكم هي ذكية إيديولوجية الفوز المسبق هذه ..ولما تصدر التنظيم نتائج الإنتخابات وبفارق شاسع على الثاني ، كان لابد له وفاء منه لإزدواجيته البنيوية ،أن يسلك طريقين : الأول سياسي براغماتي إذ لامفرّ له من التحالف مع أحزاب أخرى لتشكيل الأغلبية ،مهما كانت مسارات وإيديولوجيات هذه الأحزاب..والثاني إيديولوجي يغذي به صلته مع الخطاب الإيديولوجي لحملته الإنتخابية إزاء منتخبيه لضمان دوام الثقة معهم (لايجب أن ننسى ،هنا،أن الإنتخابات الجماعية عما قريب..وأن الحزب مدعوّلتأكيد وتكريس تفوقه..) في سياق عربي وإقليمي مشجع إيديولوجيا..في هذا الطريق الثاني يمكن أن نفهم العناصر التالية : *خرجات إيديولوجية متنوعة ومتكاملة ومتفرقة زمانيا وجغرافيا ،تصب في إثارة وشحن إيديولوجيا أخلاقوية مناضلة همت ،ضجة الخمر في دايفوس ،والبيصارة في القنيطرة ، والتبرع بالأعضاء الجسمية بالرباط..واللجن الشعبية ( بخصوص الدعارة ) والعهارة والبهرجة المخزنية ( بخصوص المهرجانات ) والضجة التي تشير الى الإصلاح ولاتحققه ( بخصوص لكريمات ) والنظافة ( بخصوص السينما والفنون ) واليانصيب ودفاتر التحملات بالنسبة للتلفزيون.. ولوائح الوزير الشوباني التي تستهدف المس بجمعيات المجتمع المدني.. * خرجات تكامل في القيام بها الحزب وحركة الإصلاح والتوحيد أفقيا وعموديا ..بما يشبه التنسيق المسبق حول هدف أو خطة مشتركة واعية.وما يثير أكثر في هذا التكامل هو التواصل الحميم الذي نسجه وينسجه مسؤولو ونواب ووزراء الحزب / الحركة مع ناسهم وأعضائهم (.... ) وعلى ذكر التواصل ، أيضا ، طالما شغلني موضوع : لماذا حققت الكثير من أحزاب الأغلبية دون أن يكون لها إعلام سيار؟؟ أفهم جيدا أن الفوز الإنتخابي زمن التزوير الرصاصي لم يكن في حاجة إلا الى إعلام وإستعلام وزارة الداخلية..وأفهم جيدا أن المجتمع المغربي في غالبيته شفوي ولايقرأ الصحف..والسياسية بالذات..وأفهم جيدا أن الإعلام الرقمي طغى و تسيّد..مع فهمي الجيد أيضا ،بأن ناخبي العدالة والتنمية ليسوا في معظمهم رقميين..لكنني ما كنت أفهم أن بعض الجرائد « المستقلة» تقوم بواجب لسان الحال خير قيام .تجرعت فهمي بمرارة تندب حظ الإستقلالية ومهمة الإعلام في التربية والتنوير على مجتمع مغربي ديمقراطي متعدد منفتح ..إلخ والذي هو المجتمع الأمثل لحرية وإستقلالية الإعلام فعلا. * خرجات تعامل العدالة والتنمية مع آثارها وردود الفعل حولها بإزدواجية منطق الكي والبخ..التصريح والنفي..المسؤولية الحزبية والمسؤولية الفردية..وتحوير الإعلام للكلام.* خرجات أبطالها ،فقط ، وزراء العدالة والتنمية وكأنهم وحدهم في الحكومة ..ففي قضية دفاتر الخلفي ،مثلا، يقول الوزير الحكومي نبيل بنعبد الله متأسفا أنه « دفتر تحملات مفروض لم تضعه الحكومة حسب القانون « ( في حوار مع الأحداث المغربية ع 4246 ليوم 19 ? 04 ? 2012 ).حصل مثل هذا التنافر الحكومي مرات عديدة : بين وزير الشباب والرياضة الحركي والوزير الخلفي نفسه بشأن قضية منع إشهار ألعاب الحظ..وبين وزير السياحة الحركي ووزير العدل والحريات حول مدينة مراكش بين منطق السياحة وإيديولوجيا الدعوة..بين الوزيرة الحقاوي ونزهة الصقلي القيادية في حزب التقدم والإشتراكية الحكومي.. * خرجات ،يعتقد العدالة والتنمية بشأن النقد والإختلاف وردود الفعل التي خلفتها لدى الأغلبية نفسها .. والمعارضة والإعلام والمجتمع المدني ، قلت يعتقد فقط أن الأمر يتعلق ب « أفاعي محاربة الإصلاح»..و» جيوب مقاومة التغيير ..» و»..عرقلة التجربة..»..إلخ ، بل وقد وصل السيل بالحزب الى التهديد بالشارع..وصب المطر في الربيع المغربي..وما فهمته من الكلام الأخير والذي صدر عن رئيس الحزب والحكومة ، هو أن الربيع المغربي كان يمكن أن يكون أخضر يانعا لو تدخل الحزب بقوة في سقي العشرينيين.. لكنه فضل الحكمة ..وجازاه الله في الإنتخابات بمثل أصدقائه الذين تدخلوا في تونس أو مصر..ولهذا علينا كلنا أن ندعه ينعم في هذا الجزاء كما يشاء..وإلا سيكون الربيع المغربي الحقيقي.. حقا ، يختزل هذا الإعتقاد سياسة قليلة أو ضعيفة النظر .لأن النقد أو الإعتراض على دفاتر الخلفي يهم نضحها بخلفيات إيديولوجية أخلاقوية ،عدا أنها لاتفهم كثيرا في عصر اللاحدود الفضائية والرقمية ..وعدا أنها ،أيضا ،لاتفهم في البرمجة والتدبير الإعلامي العام للتلفزيون ( لايعني كلامنا أن إعلامنا التلفزيوني صحيح معاف..أبدا ، إنه في الحاجة الماسة الى إصلاح يضمن مهنيته وإبداعيته وقربه وإستقلاليته..وليس الى إصلاح إيديولوجي تحكمي من نوع جديد..) ،فإنها غريبة وشاذة عن سيرة المجتمع المغربي ، على الأقل من الإستقلال الى اليوم.خلفيات لايبدو أن من أولوياتها السياسية المصلحية المهمة الإنكباب على أحوال ومصالح الناس في التعليم والصحة والعمل والسكن .. على سبيل الختم : تجربة الإتحاد الإشتراكي في الحكومة ، همشت الإيديولوجيا الإتحادية ،لصالح الوطن والدولة والتوافق ،فنفعت الوطن والدولة والتوافق بعدة مزايا وإصلاحات ، شكلت ، فعلا ، مقدمات لدينامية مغربية جاءت مختلفة ّحقا، عن هذا المدعو « ربيعا عربيا « .من ينكر دور هذه التجربة ؟ لكنها ، بالمقابل ضرت وضربت الحزب وصورته ضربا مبرحا.. فرصة الحزب ، اليوم ، هي في إعادة الوهج والإبداع والذيوع لمرجعياته الإيديولوجية . فرصة الحزب ،اليوم، في الصراع الفكري والسياسي الخلاق على واجهات المجتمع والبرلمان والثقافة والإعلام.فرصة الحزب ، اليوم ، في النضال بجرأة لكي يساهم في قطع الطريق على هذا اللعب السياسي الذي يتوسل الدين سعيا وراء الوصاية على حاضر ومستقبل المغاربة .عدا أن هذا التوسل يضمر خطر الحزب الأكبر والأوحد والأنجح ،مادام هو الحزب الديني الذي يتوجه الى المغاربة المؤمنين وليس الى المغاربة المواطنين ..فيضيع تكافؤ الفرص في السياسة ، ويضيع التنافس السياسي على مصالح الناس وحاجياتهم في العيش والحياة. والنجاح في هذه الفرص هو محك ومآل الحزب اليوم وغدا..هذا دون التفريط في إيديولوجيا حاجيات الناس الحيوية.إذ لايمكن ربح رهان « المجتمع الديمقراطي الحداثي « دون أن يشعر ويعيش ويستلذ المجتمع بمنجزات الحداثة.. أما تجربة العدالة والتنمية السارية اليوم ..فالمطلوب منها ، إن هي ، فعلا ، تريد الخير والإصلاح لهذه البلاد ، والمكانة المحترمة للتنظيم قبل التفوق الإنتخابي وبعده ، المطلوب أن تجنح رأسا الى السياسة السياسية وليس الى السياسة الدعوية..أن تركز على إيديولوجيا الحاجيات اليومية الملحة للناس ، وليس على حاجيات إيديولوجيا الدعوة والدين. إن المغاربة هم دائما على دين ملوكهم / ملكهم . والملك ، أمير المؤمنين ، وحده الجامع الشرعي الوحيد لسلطة الدين والدنيا.ووحده يجب أن يظل كذلك .وهو الضامن ،كذلك ، لشرعية وصيرورة الحداثة والتحديث ، كما أشار مفكرنا ذ عبد الله العروي. إن ملكيتنا خلال التاريخ الحديث والحاضر ظلت دوما على وعي ومراعاة لأحكام الزمن والعصر..وظلت دوما تسعى وتحاول تكريس هذه الأحكام في البلاد..لذا ،نقول أن الفوز في الإنتخابات ، والنسبي على كل حال، لايمكن قطعا أن يكون ذريعة للتعارض مع أحكام الدستور..ومع موقع وحال ووضع المغرب الثقافي والسوسيولوجي والقيمي والذوقي والسلوكي ..والذي هو موقع / حال / وضع يتسم بالتعدد والإختلاف والتسامح والحرية والتعايش.. نقطة واحدة ،في الأخير ، نسوقها علامة على الفرق بين الواقع وإيديولوجيا الوهم ، هي نسبة النمو المقترحة في البرنامج الإنتخابي للعدالة والتنمية التي كانت%7 لأجل تحقيق إقتصاد قوي ومنتج..كذا..، والتي هبطت بقوّة الى دون %4 والعدالة والتنمية في الحكومة .. كاتب مغربي