تعدّ القوانين التنظيمية إحدى الحلقات المهمة في تفعيل الدستور الذي وافق عليه المغاربة سنة 2011، فهي تعتبر قوانين مكملة له؛ ويراد من مشروع القانون التنظيمي رقم 04.16 المتعلق بالمجلس الوطني للغات والثقافة المغربية، تفعيل مقتضيات الفصل الخامس من الدستور؛ من خلال سهر الدولة على انسجام سياستها اللغوية – الثقافية متعددة الأوجه والوسائط والمراكز والمؤسسات في اتجاه حكامة لغوية ومؤسساتية جيدة. وقد أُحيل هذا المشروع على مجلس النواب في قراءة أولى في 30 شتنبر 2016، وتم تقديمه أمام لجنة التعليم والثقافة والاتصال في 10 يوليوز 2017، ووافق عليه المجلس في جلسة عامة بالإجماع بتاريخ 10 يونيو 2019. ليحال بعدها على مجلس المستشارين بتاريخ 13 يونيو 2019 وصادق عليه في الجلسة التشريعية ليوم 23 يوليوز 2019 قبل إحالته مجددا في قراءة ثانية على الغرفة الأولى. وترتكز مرجعيات إحداث المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية على دستور 2011، وعلى التوجيهات الملكية الواردة أساسا في خطاب 9 أكتوبر 2015 بمناسبة افتتاح السنة التشريعية 2015 – 2016، بجانب الالتزامات الدولية للمغرب، المتمثلة في الاتفاقيات المصادق عليها وكذا المواثيق الدولية المكرسة لمبادئ الحقوق الثقافية واللغوية، ووضع الآليات اللازمة لحمايتها والسهر على ممارستها بصورة فعلية. فالمجلس الوطني للغات والثقافة المغربية، كما نراه في سياق نزوله، هو تجميع لتراكم تحقق على مدى عقود خلت، وأريد له أن يكون قادرا على تثمين المكتسبات ضمانا لغد أفضل. فهو بذلك آلية ناظمة، من المفروض أن تنضوي تحت لوائه كل المؤسسات القائمة متعددة المهام والأهداف، ليخلق بينها الانسجام والتكامل وفق خيارات استراتيجية واضحة تضمن الشخصية الاعتبارية والإدارية والتدبيرية لكل وحدة من وحداتها. فالمواد من 11 إلى 14 من الباب الرابع المتعلقة بإعادة تنظيم مؤسستي أكاديمية محمد السادس للغة العربية والمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، ومواد الباب الخامس، خاصة المادة 18 ترمي إلى تحويل هاتين المؤسستين إلى ملحقتين تعملان “تحت إمرة رئيس المجلس الوطني”. وهذا يعتبر في نظرنا مساسا بمكتسبات الحركة الأمازيغية بشكل خاص والشعب المغربي بشكل عام، وإلا، فلماذا ترفض الحكومة الجواب على عدد من الأسئلة التي ما زالت عالقة، والتي تم طرحها ومناقشتها بإلحاح بلجنة التعليم والشؤون الثقافية والاجتماعية بمجلس المستشارين عند مناقشة المشروع ومناقشة التعديلات التي تم رفضها. وهي أسئلة مازالت تؤرق العديد من المهتمين والمتابعين. والجواب عنها ما زال معلقا حتى الآن . 1- هل تبعية المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، بلغة “الضم الصريح” للمجلس الوطني للغات والثقافة المغربية في مشروع القانون، تعني إعادة تعريف لمهامه ولصلاحياته نحو الأفضل؟ 2. هل ستفصل عن المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية المهمة التي جعلت منه حتى الآن مؤسسة استشارية بامتياز؟ 3. هل ستتطور المهام الموكولة للمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية إلى مهام ذات أبعاد استراتيجية، أم ستبقى مهام تقنية تقتصر على جمع المادة الثقافية واللغوية؟ 4. هل ستحقق للمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية أهداف ومهام مماثلة لتلك الموكولة لأكاديمية اللغة العربية على ضوء هذا القانون التنظيمي؟ 5. لتحقيق الغاية من إحداث المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية، هل لا بد من هذه العملية القيصرية الاستئصالية لحرمان المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية من موارده المالية والمادية واللوجستية؟ 6. هل سيضمن هذا التحول الهيكلي والبنيوي تمكين المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية من الأهلية القانونية التي ستؤهله لرصد ومراقبة السياسات العامة المرتبطة بترسيم اللغة الأمازيغية؟ وتظهر الإجابات بصريح العبارة من خلال نصوص المشروع. فإذا كانت الحكومة تجيب إلى حد الآن بالنفي، إلا أن المؤشرات الدالة على السير في اتجاه مصير يلفه الغموض بالنسبة للمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية وأكاديمية محمد السادس للغة العربية واضحة وجلية، خصوصا أن المشروع يحمل في طياته ما يفهم منه أنه استحضر أهمية المؤسستين، وينوي الحفاظ عليهما، لكن هذا لم يمنعه من اغتيالهما بشكل صريح من خلال مقتضيات الباب العاشر، بانتزاع الموارد البشرية وإدماجها تلقائيا بالمجلس الوطني للغات والثقافة المغربية (المادة 49) وإحلال المجلس الوطني محل المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية في كافة حقوقه والتزاماته (المادة 50) ونقل العقارات والمنقولات وحقوق الملكية الفكرية المملوكة للمعهد مجانا إلى المجلس الوطني. كما تنقل إليه ملكية الأرشيف والملفات الموجودة في تاريخ دخول هذا القانون التنظيمي حيز التنفيذ في حوزة المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية. أما المادة 51 من المشروع فهي بمثابة السيف القاطع لرأس المعهد والأكاديمية معا، عندما قضت بشكل صريح بنسخ القوانين المنظمة للمؤسستين معا من تاريخ تنصيب المجلس الوطني ومؤسساته وهيئاته. وهو نسخ مطلق يعتبر بمثابة إزالة المؤسستين من الوجود وإقبارهما بدون جنازة. مما يوحي بنوع من الانتهازية التشريعية التي لا يلجأ إليها إلا الضعفاء. والأدهى من هذا كله أنه لم تتم مراعاة قواعد التأسيس والتفكيك في المجال التشريعي، ولا احترام الحمولة الرمزية والتاريخية للمؤسستين معا. فالمهام واضحة في ظهير 17 أكتوبر 2001 القاضي بإحداث المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، الذي متعه بكامل الأهلية القانونية والاستقلال المالي (المادة1) للقيام بالمهام الموكولة إليه (المادة2)، والتي لا تشملها المهام الموكولة للمجلس الوطني للغات والثقافة المغربية بروحها الدستورية وبحمولتها التاريخية والرمزية، الواردة صراحة في ديباجة الظهير المؤسس للمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، حيث جاء في ديباجته: “تخليدا للأمانة التي حملها أسلافنا الميامين، فإننا نضع على عاتقنا صيانة مقومات هويتنا المغربية العريقة الموحدة حول القيم المقدسة والثابتة للمملكة التي يجليها الإيمان بالله وحب الوطن والولاء للملك أمير المؤمنين والتشبث بالملكية الدستورية”.. وجاء في المادة الأولى من هذا الظهير: “تحدث بجانب جلالتنا الشريفة وفي ظل رعايتنا السامية مؤسسة تسمى “المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية”، تتمتع بكامل الأهلية القانونية والاستقلال المالي ويشار إليها في ظهيرنا الشريف هذا باسم “المعهد”. كما ورد في المادة 2 من الظهير: “يتولى المعهد المحال إليه الأمر من جنابنا الشريف إبداء رأيه لجلالتنا في التدابير التي من شأنها الحفاظ على الثقافة الأمازيغية والنهوض بها في جميع تعابيرها. يشارك المعهد بتعاون مع السلطات الحكومية والمؤسسات المعنية في تنفيذ السياسات التي تعتمدها جلالتنا الشريفة وتساعد على إدراج الأمازيغية في المنظومة التربوية وضمان إشعاعها في الفضاء الاجتماعي والثقافي والإعلامي الوطني والجهوي والمحلي.” فهل من الممكن، وبجرة قلم، تجاهل القوة التعبيرية والرمزية لهذه المقتضيات التي تؤكد على علاقة المؤسسة الملكية بالشعب المغربي، وتترجم المظهر الحمائي لمختلف فئاته، ويتم الاستخفاف بها والتنكر لها ومحاولة إزالتها من الذاكرة الجماعية للمغاربة. ونحن هنا نتذكر دعوة المغفور له الملك الحسن الثاني في خطاب العرش 20 غشت 1994 إلى “إنعاش الأمازيغية” بإدخالها في برامج التعليم، وإعلان جلالة الملك محمد السادس عن إحداث المعهد (خطاب العرش في 30 يوليوز 2001) الذي جاء بعده خطاب أجدير التاريخي في 17 أكتوبر 2001، الذي أقر إحداث وتنظيم المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية؛ معتبرا أن النهوض بالأمازيغية مسؤولية وطنية، من منطلق أنه لا يمكن لأي ثقافة وطنية التنكر لجذورها التاريخية. وبعد عقود من انطلاق هذه الدينامية المؤسساتية لترسيم اللغة الأمازيغية، وما انبثق عنها من ديناميكية أوسع على المستوى المجتمعي في شبكات متعددة الاهتمامات والتخصصات لبناء المشروع الثقافي الوطني المغربي، نرى أن هذه الخطوة هي عودة إلى الوراء، فهي تعدت وتجاوزت اليوم نطاق تنزيل الطابع الرسمي للأمازيغية إلى طمس مكتسبات عقود مضت، واغتيال روح خطاب أجدير ومحاولة محو ذاكرة جماعية مشتركة في ملك كل المغاربة. فقد كان من الممكن تعزيز موقع المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، لأنها من المؤسسات القلائل التي كان لديها حس الانفتاح الحقيقي والتفاعلي مع المجتمع المدني، وكان لديها حس البحث الأكاديمي التطبيقي، وكانت لديها القدرة على استباق ورصد التغيرات ومستجدات حقول البحث والتوظيف الجيد لتقنيات التواصل والبحث والاجتهاد والابتكار في المجالات المرتبطة بمهامها. فقد أكون قاسيا إذا استعملت ووظفت كلمة “اغتيال” في حق المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، وقد أكون مبالغا إذا تحدثت عن ضم وتفكيك فعلي لمؤسسة تعتبر بحق معلمة ورمزا وطنيا لا يقبل التذويب والتفكيك. فالمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية يظل رمزا لمرحلة جديدة في تعاطي الدولة مع الأمازيغية، يتعين تمتيعه كمؤسسة بالاستقلالية والسلطات اللازمة ليستمر في القيام بمهامه، التي أداها سابقا بجدارة واستحقاق، ويستحق منا التنويه بدل تقليص اختصاصاته والإجهاز عليها أو مصادرة ممتلكاته بدعوى التجميع وباسم القانون. فقد كان ممكنا أن يتحقق التداخل في إطار التكامل، وكان ممكنا أن يتم التنسيق بين مختلف مكونات المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية في إطار احترام استقلالية المؤسسات في قراراتها، دون السعي إلى تفكيك مؤسسات قائمة، ذات مكانة اعتبارية ورمزية، وهما مؤسستا المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية وأكاديمية محمد السادس للغة العربية وتذويبهما في قالب المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية . وفي ارتباط مع مشروع القانون التنظيمي رقم 26.16 المتعلق بتحديد مراحل تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية وكيفيات إدماجها في مجال التعليم وفي مجالات الحياة العامة ذات الأولوية، فالمؤاخذة الأساسية هو رفض التنصيص على اللغة الأمازيغية ومعيرتها. وأكثر من ذلك، هناك نوع من الإصرار وتعمد استغلال تعدد التعبيرات اللسانية الأمازيغية المتداولة بمختلف مناطق المغرب للإجهاز على معيرة اللغة وتوحيدها، لأن عدم التنصيص صراحة على اللغة المعيارية وعلى خط تيفناغ تحديدا، يعتبر في منظورنا، تحاملا على الجهد الأكاديمي الذي بذله المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية. وهو تعبير عن رغبة في استمرار اللبس والغموض ولعب لعبة الخطوة إلى الأمام والخطوتين إلى الوراء، في التعامل مع مكتسبات الحركة الثقافية الأمازيغية المتمثلة أساسا في المبادئ الأربعة: التعميم – الإلزامية – التوحيد – حرف تيفناغ، حيث يتم الحديث أحيانا عن اللغة الأمازيغية، مجردة من أي تعريف إضافي، ويتم الحديث أحيانا أخرى عن التعبيرات اللسانية الأمازيغية المتداولة… وفي هذا عرقلة لتحقيق الوحدة اللغوية، وفيه محاولة لخلط الأوراق والإيهام باستحالة إقرار لغة موحدة وتوظيف التعبيرات اللسانية الأمازيغية المتداولة لبلقنة الحقل اللغوي الوطني، الملغوم أساسا. وفي كل هذا إضفاء لمزيد من الضبابية والغموض والارتباك، في زمن يحتاج فيه المغاربة لمزيد من الوضوح والشفافية والالتزام والمسؤولية في مواجهة عولمة الثقافة وتبضيعها.