سأحاول في هذا المقال التوقف عند مشروعي القانونين التنظيمين اللذين تحضِّرهما الحكومة للمصادقة عليهما في المجلسين الحكومي والوزاري استعداداً لاعتمادهما بوصفهما نصين تشريعيين ملزمين بعد نشرهما في الجريدة الرسمية. وسأتناول في المقالة أبرز الإشكاليات المعروضة والتي منها إشكالية المقاربة التشاركية التي تدعيها الحكومة، أو رئيس الحكومة على الأصح، وإشكالية اللغة الرسمية كما تمّ تعريفها في أحد هذين المشروعين، وإشكالية حرف تيفيناغ، وإشكالية اللغة القانونية المستعملة لإلزام «الدولة» بتنزيل تفعيل الترسيم، وإشكالية اللغة الأمازيغية من خلال تبيُّن موقعها داخل كل من المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي والمجلس الوطني للغات والثقافة المغربية، ثم أخيراً إشكالية مؤسسة المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية ووضعيتها القانونية والمهام الجديدة المنوطة إليها. المقاربة التشاركية ادّعى محرِّرُ مشروع القانون التنظيمي الذي سيحدّد مراحل تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية أنه أعدَّ هذا المشروع «وفق مقاربة تشاركية» أُخذ فيه بعين الاعتبار: مذكِّرات واقتراحات الفاعلين والمهتمين؛ المذكرات التي سبق التوصُّل بها من بعض المؤسسات العمومية والمجتمع المدني؛ بعض التجارب الدولية التي تمّ الاستئناسُ بها في مجال ترسيم اللغات. ولكن المتتبعُ لمجريات الإعداد لهذا المشروع سيلاحظ - للأسف- أن ما يدّعيه المحرّرُ لا أساس له من الصحة؛ وذلك ل: أن كل «الفاعلين والمهتمين» الحقيقيين قاطعوا الحكومة التي أهانت الأمازيغية بإطلاقها لعنوان إلكتروني تُطالبُ فيه المجتمع المدني والسياسي بإرسال المذكرات والمقترحات دون أن تُحدّد لهم جهة رسمية معروفة تُرسَلُ إليها تلكم المذكرات والمقترحات؛ أن محرّر مشروع القانون لم يتوصل إلا بمذكرات ومقترحات «المجتمع المدني والمؤسسات العمومية» التابعة لحزب العدالة والتنمية الذي أقسمَ إلا أن يتراجع عن كل ما قرّره الملك ويُعيد الأمازيغية إلى وضعية ما قبل 2001؛ وأما بالنسبة للمجتمع المدني الحقيقي فإنه لم يسبق له أن قدم أي مقترح أو مذكرة؛ وكل ما في الأمر أن المحرّر استولى على نصوص ومذكرات تمّ إنتاجها في سياقات ترافعية خاصة واستعملها بخبث بهدف إضفاء الشرعية على «مشروع جريمة» بصدد التحضير لها بكل دقّة؛ ولذلك فإن الهيئات الأمازيغية التي ادّعى أنه توصّل بمذكراتها ومقترحاتها أنكرت عبر بياناتها بشدة أن تكون أرسلت نصاً عبر البريد الإكتروني المعلوم، بله واستنكرت أن يتمّ استعمال نصوصها ومذكراتها بشكل مُغرض؛ أن كل التجارب العالمية في مجال ترسيم اللغات التي استأنس بها المحرّر لإنجاز مشروعه لا وجود لها إلا في مخيلة هذا الأخير؛ إذ أن هذه التجارب العالمية المدّعى الاستئناس بها لا يمكن أبداً أن نجد لها مضموناً داخل نص مشروع القانون الذي تريد أن تُمرره الحكومة؛ ويكفي في هذا الصدد القيام بمقارنة بسيطة بينه وبين النصوص – القوانين التي اعتمدتها الحكومات في بلجيكا وسويسرا وإسبانيا وجنوب إفريقيا وكندا والباراكواي إلخ. لنتأكد جميعاً أنه لا مقارنة بين ما لا يمكن أن يُقارَن، وأن الذين أعدوا هذا المشروع إنما أرادوا به العودة بالأمازيغية إلى وضعيتها قبل سنة 2000. نخلُص من كل هذا أن الحكومة، (أو إن شئنا الدقة حزب العدالة والتنمية)، قد قررت لوحدها أن تخرج مشروع القانون دون أن تأخذ بعين الاعتبار رأي أي أحد. وبذلك فهي تكون قد كذبت علينا مرتين: المرة الأولى: عندما ادعت في مخططيها الحكومي والتشريعي أنها ستُشركُ المجتمع المدني والسياسي في إنتاج نص القانون ولم تفعل؛ فلا هي أشركت المجتمع ولا هي أشركت المؤسسة الرسمية التي أنشأها الملك لكي تضطلع بالمهام الأساسية لتنمية وتطوير الأمازيغية؛ المرة الثانية: عندما ادعت في المذكرة التقديمية لمشروع القانون التنظيمي لتفعيل ترسيم الأمازيغية أنها أعدت المشروع «وفق مقاربة تشاركية». وللتذكير فإن نفس السيناريو حاولت أن تلعبه الحكومة مع مشروع القانون التنظيمي للمجلس الوطني للغات والثقافة المغربية عندما كلفت، منذ أكثر من سنتين، وزارة الثقافة بإعداده في سرّية تامة ثم تهريبه إلى القصر الملكي. ولولا تدخّل هذا الأخير وموافقته على تكوين اللجنة الملكية المعلومة والتي أنجزت لنا النسخة الثانية من المشروع لكنّا أمام نص قانوني أقل ما يمكن أن نقوله عنه هو أنه نص يفتقد إلى روح الدستور. 2 - اللغة الأمازيغية – «التعبيرات» يُقدمُ المحرِّرُ في الباب الأول / أحكام عامة (المادة الأولى) من مشروع القانون التنظيمي لتفعيل ترسيم اللغة الأمازيغية تعريفاً لهذه الأخيرة بالصيغة التالية : «يقصد باللغة الأمازيغية في مدلول هذا القانون التنظيمي مختلف التعبيرات اللسانية الأمازيغية المتداولة بمختلف مناطق المغرب، وكذا المنتوج اللسني والمعجمي الأمازيغي الصادر عن المؤسسات والهيئات المختصة». إن الأخطر في هذا التعريف الذي لا نجد له أي مرجعية لدى اللسانيين المختصين ليس فقط في كونه يعود بنا إلى إشكالية اللهجات التي تجاوزها الدستور بشكل واضح وحاسم عندما اعتبر اللغة الأمازيغية لغة رسمية للدولة وجعل من مهام المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية الاهتمام بجميع المظاهر الثقافية واللغوية المغربية، بل إن الخطورة تكمن في كونه لا يعطي أي وضع أو وضعية قانونية للغة الأمازيغية المعيار التي اشتغل عليها المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية منذ 2003، وراكم فيها منتوجاً علمياً وأكاديمياً لم يسبق أن تمّ إنتاجه في تاريخ الأمازيغية. وبغض النظر، هنا، عن التهافت الواضح الذي يتميزُ به هذا التعريف على المستوى العلمي، فإنه، للأسف، يختزل الأمازيغية في تعريف لا مضمون له في المراجع الأكاديمية لعلماء اللسان بمختلف أطيافهم، كما أنه يختزل مفهوم اللغة في «مدلول قانون تنظيمي» يحدده في «التعبيرات اللسانية الأمازيغية» التي يجب مراعاتها في التدريس. ونحن بعودتنا إلى المادة الثامنة من المشروع نقرأ ما يلي: «يُراعى في إعداد المناهج والبرامج والمقررات الدراسية الخاصة بتدريس اللغة الأمازيغية مختلف التعابير اللسانية الأمازيغية المتداولة في مختلف مناطق المغرب»؛ هكذا إذن يكون محرر المشروع قد حدد لنا ما يجبُ مراعاته في استعمال هذه اللغة التي هي «التعبيرات اللسانية»؛ إذ ما دامت اللغة الأمازيغية المنصوص عليها في الدستور لا وجود لها في المشروع المُقدّم إلا بوصفها، تعريفاً وقانوناً «مختلف التعبيرات اللسانية الأمازيغية المتداولة بمختلف مناطق المغرب»، فإن هذا يستتبعُ بالضرورة أن تُدرّس هذه التعابيرُ اللسانية باعتبارها المضمون القانوني للغة الأمازيغية؛ أي ب «العربية تاعرابت» أن تُدرّسَ اللهجات» أو على الأقل أن تَقذف بالمؤسسات وبالمجتمع المدني في أتون نقاش – فتنة قد يستمرّ لسنوات أخرى دون نتيجة. وهي الغاية التي يريد أن يصل إليها المحرّر. وفي نفس الاتجاه سنلاحظ أن عقل المحرر سينكص بشكل واع أو لا واعٍ إلى مفهوم الاستئناس الذي ورد في نص الميثاق الذي تم إنتاجه قبل أكثر من 14 سنة في عهد المرحوم مزيان بلفقيه، أي قبل إلقاء خطاب أجدير وقبل إصدار الظهير المحدث والمنظم للمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية؛ فقد جاء في المادة الخامسة من مشروع القانون التنظيمي ما يلي: «مراعاة للخصوصيات الجهوية، يمكن اعتماد التعبيرات اللسانية الأمازيغية المتداولة في بعض المناطق بجهات المملكة، إلى جانب اللغة العربية، لتيسير تدريس بعض المواد التعليمية في مسلك التعليم الأساسي بالمؤسسات التعليمية الموجودة بهذه المناطق»؛ وبطبيعة الحال، فإنّ هذا المفهوم للغة المختزلة في «مدلول قانون» «التعابير اللسانية الأمازيغية»ّ سيمتدّ بشكل آلي ليشمل كل المجالات الأخرى سواء تعلق الأمر بالتعليم كما قُدِّم أو بالإعلام والاتصال أو بغيرها؛ فمفردة اللغة الأمازيغية التي تتكرر في ثنايا المواد ليست إلا «التعبيرات» التي يجبُ تفعيل ترسيمها. وأما عند قراءتنا لمشروع القانون التنظيمي الخاص ب»المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية» فسنلاحظ أن محرر القانون تجنب بشكل ممنهج استعمال اللغة الأمازيغية المعيار أو الأمازيغية الموحدة على غرار التعابير التي استعملها وهو يتحدث، مثلاً، عن اللغة العربية؛ فبالنسبة إليه أن من اختصاصات المعهد في حُلته القانونية الجديدة هي «تجميع وتدوين مختلف تعابير اللغة والثقافة الأمازيغية»؛ و»القيام ببحوث وبدراسات في اللغة والثقافة الأمازيغيتين» إلخ. في حين اعتبر أن من مهام أكاديمية محمد السادس «الإسهام في مجهود توحيد المصطلحات العربية»؛ و»السهر على تطوير النظام النحوي والمعجمي والتوليدي للغة العربية»؛ و»وضع معاجم لغوية عصرية عامة ومعاجم متخصصة رهن إشارة المستعملين»؛ إننا في الحالة الأخيرة نشعر أن المشرع يشرعُ لمعيرة اللغة العربية و»توحيدها»، في حين أن الإحساس الذي ينتابُنا ونحن نقرأ مهام المعهد الملكي هو أن المشرع يشرع لما سُمي في مشروع القانون التنظيمي الأول بالتعبيرات اللسانية الأمازيغية. ولذلك فإن مهامّه الأساسية ليست معيرة اللغة الأمازيغية وتوحيد مصطلحاتها ووضع معاجم عصرية وتطوير النظام النحوي والمعجمي لها إلخ بهدف تدريسها واستعمالها في مختلف مرافق الدولة، ولكن القيام بدراسات سيُحدد المجلس نوعيَتها بعد المصادقة عليها؛ وشتان بين التشريعين. 3 - حرف تيفيناغ المغدور لم ترد في مشروع القانون التنظيمي لتفعيل الطابع الرسمي للغة الأمازيغية أي إشارة إلى حرف تيفيناغ، وهذا بالرغم من أن النص يتحدث عن إمكانية استعمال اللغة الأمازيغية في الوثائق الرسمية والأوراق النقدية والطوابع البريدية وأختام الإدارات العمومية ووسائل النقل إلخ. والسؤال المطروح هنا لماذا لم يؤكد النص على أن هذه الكتابة ستكون بحرف تيفيناغ؟ هل يعبر هذا السكوت عن تراجع عمّا قرّره جلالة الملك بمباركة 32 حزب سياسي وكل أطياف الحركة الثقافية الأمازيغية التي أرسلت إلى القصر رسالة شكر وامتنان على القرار المتبصر؟ إنّ هذا التراجع لو تحقق لن يُزعزع فقط ثقة المواطنين بالقرارات التي يُقررها ويصادق عليها الملك، بل سيفتحُ المجتمع على المجهول. إذ بأي حق سيقرر الحزب الحاكم أن يفرض قراره على كل التيارات والأحزاب السياسية والأطياف الأمازيغية؟ أنه بعودتنا إلى مشروع القانون التنظيمي للمجلس الوطني للغات والثقافة المغربية سنجد ذلك الجواب الخطير؛ ذلك لأن هذا المشروع يؤكد في المادة 14 أن من مهام المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية في حُلته الجديدة، ما يلي: «دراسة التعابير الخطية الكفيلة بتسهيل تعليم الأمازيغية». (يتبع)