إدريس كثير من طينة المفكرين القلائل في الوطن العربي المعاصر الذين تملكهم همس جنون الفن والفكر معا توقا إلى الحقيقة على آثار هيغل… تراه منتشيا بطريقة زرادشترا ودوجين (فيلسوف البرميل) الغريبة والعجيبة، ممتشقا فانوس المعارف الأدبية والجمالية بحثا عن الإنسان في واضحة النهار، دون التقيد بسلط النظريات المتعالية وأحكام الأنساق المغلقة. كاتب محب للحياة حد النخاع والثمالة، حياة الأعلى والأسفل، حياة المحايثة والتعالي. جعل من كلمات مؤلفاته البديعية المتعددة ضحكا خفيا، ورقصا رمزيا، وانتشاء معرفياوعرفانيافي الآن ذاته.أليس المنجز النصي لديه حجاجا مع الجماليات وضد الترهات؟ ألا تنم مؤلفاته النقدية المرجعية عن تكوينه الفلسفي، وحسه الجمالي، وهمه الإنساني، ومشروعه الحداثي؟ غواية البياض يكتب إدريس كثير بحبر سري شبيه بمواد المختبر الكيميائي.أدرك غواية بياض الصفحة الناصع، جاعلا من الامتلاء فراغا ومن الفراغ امتلاء. كم تكبد، في صمت وبدون ادعاء، ألم ولذة القراءة العاشقة لأمهات النصوص المعرفية العالمية حد التماهي والحلول : أستحضر شغفه الجميل بنيتشه (فيلسوف المطرقة) وقراءته المتعددة لحداثة شارل بودلير وما بعد حداثة لوك فيري، كما استعيد في مقامه العالمإناسة الفن لدى أندري كومت سبو نفيل وجمالية الانتشاء لميشال أونفري. نصوص إدريس كثير آسرة وبليغة لأنها متشربة بالحياة خارج الخطابات المعيارية والنمطية. نصوص نسقية تدفع بالأفق المعرفي إلى أقصى حدوده، مخلصة لميثاق ما بعد الحداثة الكامن في الفردانية والانتقائية، ومخلخلا العديد من المفاهيم والقضايا الفنية والفلسفية على نهج ج ف ليوطار في ضوء مساءلته لما بعد الحداثة . تراه مفكرا تفكيكيا لنظام الكتابة حول الجماليات البصرية التي لا تخضع لتمفصل بنيات اللغة وتراكيبها التقريرية. التفكيك كما تصوره ومارسه في محراب كتاباته ذو حمولة تساؤلية ولذة عارمة دون نزعة ديداكتيكية. تفكيك يحول الجماليات إلى شعرية الدهشة والاغتباط والنشوة، مقتديا بقول جاك دريدا: “ما يواجهنا اليوم إنما هو قديم مخبأ في التاريخ”. كتابة الروح المنتشية إدريس كثير، أيضا، من دارسي الجماليات التشكيلية المغربية والدولية، حيث أثرى المكتبة النقدية بدراسات مستفيضة حول التجريد كأفق من آفاق التشخيص (تجربة الفنان محمد كريش)، والعبقرية والإبداع (تجربة الفنان عباس صلادي)، وروحانية اللازوردي (تجربة بول كلي وكاندينسكي)، وهالة الأجساد الهلامية (تجربة الفنان محمد المنصوري الإدريسي)، وميتافيزيقا البقايا (تجربة الفنان علي البزاز)، والمختلف والعظيموكذا الفن المابعد حداثي (تجربة نيومان بارنيت). لعمري إن كل دراسة من هذه الدراسات المذكورة جديرة بمؤلف جمالي منفرد على غرار المونوغرافيا المحكمة التي خصها لتجربة عباس صلادي ضمن منشورات جمعية الفكر التشكيلي. بانشراح نادر، انزاح إدريس كثير في مشروعه الفكري عن كل التصورات الخطية والتراكمية، متفاعلا بشكل حثيث مع طرح ج ف ليوطار في ما يخص “كتلة الكتابة”، أي البنية. فما يشد انتباه مفكرنا هو ما يوجد طي الخطاب، خارجه وعلى قارعة طريقه (بديع الجمال الإنساني، دراسات، الطبعة الأولى، منشورات مقاربات، ص 109). هكذا يصبح كل نص من نصوص إدريس كثير فضاء مفتوحا، وصيرورة منداحة، وهو أمر شبيه بضربة النرد في قصائد مالارميه الأثيرة لدى كاتبنا الألمعي: فالنص لا يقول، بل يشير ويومئ. يبلور فقط، ويخترق العالم الصامت على صورة الحلم الذي يخترق شعور النائم. يا له من اقتصاد قائم على ملكتي التذكر والتبلور في أفق إنتاج منجز كتابي حي يحاول أن يرى كالرسام ما لا يرى (يستحضر إدريس كثير في هذا المقام حالة غويا في الرسم، وحالة بيتهوفن في الموسيقى وحالة المعري في الشعر). فإذا كان الرسام يحول فعله الصباغي إلى حدث تلويني، فإن إدريس كثير يحول فعل كتابته إلى حدث انفعالي باللغة الأخرى التي لا تمنع الكتابة المنتشية بالروح الإنسانية المنشرحة وبالمتعة الماتعة (كانط). مبدع في تعابيره الأسلوبية التي لا تتقيد بالبنيات اللغوية والصورية الثابتة، بل تسبك صيغها الخاصة لمقاربة المسكوت عنه والذي يصعب الحديث عنه. يا لها من كتابة “باذخة” تمارس نوعا من “التبشير” الجمالي لقضايا فكرية معاصرة لضيوف محتفى بهم في حضرة الكتابة على عكس ما ورد في مقال الشاعرة اليابانية يوكو تاودا الموسوم ب “ضيف غير مدعو”. كتابة تقوم على الثنائية التكاملية بين أبولون (رمز الاعتدال) وديونيزوس (رمز الإفراط)، ملتزمة بمبدأ هيراقليطس: “وحدوا بين ما يجمع وما يفرق”. د. عبد الله الشيخ