قد يكون فيلم ما معنياً بحالة إنسانية، من خلالها ينقل الصراع الطبقي ضمن حكاية وشخصيات محدودة، وهذه حالة فيلم السعفة الذهبية لمهرجان كان السينمائي في دورة العام الماضي، الفيلم الياباني «مسألة عائلية». أما هذا العام فنال الآسيويون السعفة الذهبية أيضا عن فيلم «باراسيت» (طفيلي) للكوري الجنوبي بونغ جون هو، وهو فيلم يعنى بحالة إنسانية أيضا، من خلالها يظهر الصراع الطبقي في أشد حالاته احتداماً، بتقابل مباشر بين عائلتين، غنية وفقيرة، والجديد هنا هو إدراج ذلك ضمن سياق فيلم جريمة بلمسات رعب سيكولوجي كانت ضرورية، ليصل الاحتدام إلى أقصاه وبالتالي مبتغاه كفيلم سينما تتطور الأحداث فيه إلى لحظة السقوط. الطريقة الأكثر تأثيراً، وربما مباشرة في إيصال فكرة ما، هي إظهارها مجاوِرة للصورة النقيض، نرى ذلك في الألوان مثلاً، فيبدو الأسود أشد سواداً إن جاور الأبيض، ونرى ذلك في المونتاج، في نظريات السوفييتي آيزنشتاين في فن المونتاج، بتجاور لقطات تُظهر تفاوتاً ما بين الشخصيات والحالات فيها، وبالتالي تناقضاً بينها، ما يفتح المجال لرسائل معينة كي تصل إلى متلقي المَشاهد/الفيلم. الغاية الأساس هنا هي إظهار لا فقط حالة التناقض بين الطرفين، العائلتين الغنية والفقرية في هذا الفيلم – لنقل- بل في إظهار شدة الحالة لدى كل منهما، الفقر المدقع لدى هؤلاء، والغنى الفاحش لدى أولئك. لكن الفيلم لم تُبنَ البراعةُ فيه على حسن إظهار تلك التناقضات (التناحرية، سنرى ذلك أخيراً) وحسب، إنما في السيناريو الذي أتى بتلك التناقضات إلى مُشاهدها. فالقصة هنا لافتة، تطورها المنطقي السريع، بمعنى غير الرتيب وغير المتسرع، أوصل الأحداث المتتالية بسلاسة وتشويق أحياناً، وبمسحات كوميدية أحياناً أخرى، إلى آخرها. القصة هنا لافتة، تطورها المنطقي السريع، بمعنى غير الرتيب وغير المتسرع، أوصل الأحداث المتتالية بسلاسة وتشويق أحياناً، وبمسحات كوميدية أحياناً أخرى، إلى آخرها. عائلة فقيرة، بل فقيرة جداً.. تعيش في مستوى أسفل الأرض، فنافذتها المرتفعة توازي سطح الشارع، وإن تبول أحد المارة عند الزاوية، حيث النافذة، قد يصيب البيت وأهله. صديق لابن في العائلة يدله على بيت لعائلة غنية، بل غنية جداً، تبحث عن مدرس لغة إنكليزية خصوصي لابنتها، يدعي الشاب أنه مدرس، يزور شهادات وينجح في إقناع والدة الفتاة والفتاة معاً به كمدرس جيد، يعرف أن أخ الفتاة الأصغر يحتاج لمدرس رسم، يكذب ويتخابث ليدلهم على أخته، كمدرسة رسم لا يعرفها وسمع عنها، تأتي ويصير الأخوان، كغريبين، في البيت. تترك الأخت لباسها الداخلي في سيارة سائق العائلة ليتم إيجاده وبالتالي إنهاء خدمة السائق، فتدلهم الفتاة على سائق سمعت به ولا تعرفه، هو أبوها. يدبرون جميعهم طريقة للتخلص من مدبرة المنزل ليجدوا مكاناً للأم/الزوجة معهم في البيت. وهكذا يحتل أفراد العائلة الفقيرة البيت، بإيهام العائلة الغنية بأن أحدهم لا يعرف الآخر شخصياً. لدينا الآن عائلتان كاملتان في بيت واحد. ما إن يعمل جميع أفراد العائلة الفقيرة في البيت، حتى ينظم أفراد العائلة الغنية رحلة فيتركون البيت للمدبرة الجديدة، التي تجلب عائلتها ليمضوا سهرة باذخة في البيت، شرباً وأكلاً، إلى أن تعود مدبرة المنزل القديمة ليلتها، لتقول إنها بحاجة إلى أمر ما في المخزن في الطابق تحت الأرضي، تدخل ونكتشف أن هنالك دهليزاً يبدو أن أحداً من العائلة الغنية لا يعرف به، وإنها تخبئ زوجها فيه، تمرر له الطعام والشراب بين وقت وآخر. هنا يندلع صراع قاتل ويمتد إلى المشاهد الأخيرة من الفيلم، بين العائلتين الفقيرتين. تتطور الأحداث بتسارع من هذه المشاهد، إلى نهاية الفيلم، وهنا، حين يعود أفراد العائلة الغنية من منتصف الطريق لرحلتهم، وقد ألغوها بسبب العاصفة، تجتمع التناقضات بأقصى أشكالها: عائلتان فقيرتان، إحداهما تعيش في بيت متهالك في حي شعبي فقير، والأخرى بشكل سري، كالسجناء، تحت الأرض، وعائلة غنية ليست على علم بما يحصل، متغافلة عنه تماماً، منغمسة في ثرائها الفاحش. تجتمع التناقضات وتتناحر، وتتسارع الأحداث حتى اللقطات الأخيرة من الفيلم، حين ينفجر الجميع ببعضه. الفيلم (Parasite) يستحق سعفة ذهبية لمهرجان كبير ك»كان» السينمائي، أقول ذلك من دون الأخذ بعين الاعتبار أفلاماً كبرى شاركت في المسابقة، ولم تنل الجائزة الرئيسية، أو غيرها من الجوائز، فاستحقاق أحد الأفلام لجائزة ما لا ينفي استحقاق أخرى لها. في الآخر، هنالك لجنة تحكيم، وهي التي ستقرر لمن تذهب السعفة ولم يكن خياراً سيئاً هذا العام.