تخيل أنك تذهب إلى مطعم وتطلب وجبة. ثم تتردد على المطعم وتطلب فيصير النادل يعرف وجباتك المفضلة. في مرة من المرات يأتيك بوجبة لم تطلبها من قبل لكنها تنسجم تماما مع ذوقك وتستمتع بها. ربما أكلتها في مكان آخر من قبل، ولكن ذكاء النادل حدد أنك من فئة من الناس إذا أكلوا تلك الوجبات الأخرى، فإن مصيرهم طلب هذه الوجبة. ليس هذا وحسب، بل تجده في كل مرة يأتيك بوجبة جديدة لم تطلبها من قبل، وكل مرة تستسيغ الاختيار وتستطعم. ثم يفاجئك بأن يختار أصنافا من الطعام من مطابخ عالمية مختلفة لا تنتمي، مثلا، إلى المطبخ الشرقي الذي تفضله. نادل ذكي فعلا. هذا أقرب وصف أستطيع تقديمه لعلاقتي ببرنامج الذكاء الاصطناعي الذي يسير حسابي على يوتيوب. في السابق، كانت لديه ذاكرة فقط. إذا سجلت حسابك فإن يوتيوب يتذكر ما استمعت إليه من أغان. تشغل التطبيق فتأتي الأغاني السابقة. تطور التطبيق فصار يقترح أغاني لنفس المطرب. هذا مفهوم تماما. إذا استمتعت لبعض أغاني عبدالحليم حافظ القصيرة، فإن البرنامج سيميل لاقتراح بقية أغانيه القصيرة. الخوارزمية التي تتحكم بالبرنامج بسيطة وسهلة. تعلّم يوتيوب من "سلوك" فيسبوك فصار يقترح ما يسمعه "الأصدقاء". والأصدقاء هنا هم من يستمعون مثلك لعبدالحليم لكنهم يستمعون إلى وردة أيضا، فأنت مرشح لسماع وردة. توسعت القائمة، لكنها بقيت في نفس الإطار. قبل سنتين بدأ شيء غريب يحدث. المقترحات صارت مختلفة وتتنوع وأقل دقة من السابق. الدقة المفقودة كانت في ما هو خارج السياق العادي لما أستمع إليه من أغان. لا بد هنا أن أذكر أني لست مستمعا عاديا. يمكن أن أستمع لفيروز في الصباح ثم أغير إلى مادونا وبعدها أستمع لأغان صوفية ومقدمات موسيقية تتراتّ لمسلسلات عربية وبعض من موسيقى كلاسيكية أو أغاني البوب من السبعينات أو الثمانينات. أي من الصعب لبرنامج يتابعني ويتابع ما أستمع إليه أن يبدأ برسم مسار مزاجي الفني، خصوصا لأني أتنقل بين لغات مختلفة وأجناس غنائية متباينة. كيف يمكن الخروج باستنتاج لذوقي في الاختيار إذا استمعت إلى أغنية "الحب والتفهم" للمطربة الأميركية شير وبعدها يمكن أن أستمع إلى رائعة بليغ حمدي "مولاي" للشيخ سيد النقشبندي؟ منذ شهرين تقريبا تغير كل شيء. الذكاء الاصطناعي صار يعرفني تماما ويعرف ذوقي الغنائي العشوائي. أمسك بي وصار يقترح بدقة غريبة أغاني نسيتها أو يمكن أن تروق لي. النادل الموسيقي الذكي صار يعيش في يوتيوب ويقدم لي الوجبات الغنائية وأنا أستمع عن طيب خاطر. هزمني وهزم اللغات وهزم الأجناس الموسيقية.