في عيد القيامة، عام 2007، شارك 2.2 مليار كاثوليكي، وأنجليكاني، وبروتستانتي وأرثوذكسي احتفالات عيد الفصح، ورغم الخلافات اللاهوتية رددوا عبارة واحدة: ربنا أعطنا خبزنا كفاف يومنا. بعد أكثر من 10 سنوات من هذا التاريخ لم يعد أحد يكتفي بالخبز والكفاف، هناك الهاتف الذكي، والسيارة الذكية، والمنزل الذكي.. وأيضا المدن الذكية. لا يوجد اليوم من يتغنى "بعيشة الفلاح"، أو يدعو للبساطة، وأكل الخبز والزيتون، الجميع، إلا قلة، يرغب "بعيشة" أثرياء مونتي كارلو ولاس فيغاس وأكل الكافيار. وكان من أول ضحايا هذا التبدل، الأيديولوجيا، التي دق أول مسمار في نعشها انهيار جدار برلين، في التاسع من نوفمبر عام 1989. ولكن، كيف تبدل العالم فجأة. في ثمانينات القرن الماضي، قادت الأبحاث التي أشرف عليها البريطاني السير تيم بيرنرز إلى تطوير شبكة الويب. ومنذ منتصف التسعينات أصبح لشبكة الإنترنت تأثير ثوري على الثقافة والتجارة والسياسة، وشمل ذلك ظهور التراسل الفوري، وتطور البريد الإلكتروني، والمكالمات الهاتفية عبر شبكة الإنترنت، ومكالمات الفيديو، ومنتديات النقاش، والمدونات، وشبكات التواصل الاجتماعي ومواقع التسوق. تاريخ البشرية الطويل عرف انتقالات جذرية، لا يتجاوز عددها عدد أصابع الكف الواحد، الانتقال من مجتمع الصيد إلى المجتمع الرعوي، كان أولها. أما آخرها فهو حتما عصر الإنترنت الذي مهّد له السير بيرنرز. الصين، معقل الشيوعية، بدلت جلدها، ولم يتبق من الشيوعية إلا ما تستخدمه أداة للسيطرة وتسيير الأمور، لتتحول إلى مجتمع استهلاكي بجدارة. وأثار رأي للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، رد فيه على سؤال حول استقبال المهاجرين في أوروبا خلال مقابلة نشرتها صحيفة فايننشال تايمز الأسبوع الماضي، جدلا كبيرا، شارك فيه قادة أوروبيون. حسب بوتين فإن الفكر التقدمي "لم يعد يخدم هدفه"، والأيديولوجيا "لفظت أنفاسها"، ولم تعد سلعة قابلة للتسويق، والأجيال الجديدة لا تنطلي عليها الخطب الرنانة، والأوطان التي تجير على أبنائها ليست عزيزة. ومع تصاعد حضور القوى الشعوبية بين أوروبا والولايات المتحدة، "لم يعد بإمكان التقدميين أن يفرضوا على الناس ما يجب عليهم فعله، مثلما حاولوا خلال العقود الماضية". تصريحات بوتين التي قال فيها أيضا إن الأفكار التقدمية التي تطرحها الديمقراطيات الغربية "عفا عليها الزمن"، لم ترقْ لقادة أوروبيين سارعوا في شن هجوم عليه. كان أول المنتقدين للتصريحات رئيس المجلس الأوروبي دونالد توسك، الذي قال خلال مؤتمر صحافي في أوساكا "لا بد لي من القول إنني على خلاف تام مع الحجة التي تقول إن النهج التقدمي عفا عليه الزمن". "كل من يؤكد أن الديمقراطية التقدمية عفا عليها الزمن إنما يقول إن الحريات عفا عليها الزمن، وإن دولة القانون عفا عليها الزمن، وإن حقوق الإنسان عفا عليها الزمن". بوتين لم يقل إن الحريات ودولة القانون وحقوق الإنسان عفا عليها الزمن، ما قاله بوتين وتجاهله توسك عمدا، أن التجارة بهذه البديهيات هو ما عفا عليه الزمن، الحديث عن الديمقراطية، التي لم تكن يوما ديمقراطية، هو ما عفا عليه الزمن. كلمة التقدمية الفضفاضة، يستطيع أي واحد يتاجر بالسياسة امتلاك حقوقها. من قال إن توسك والقادة الأوروبيين تقدميون. ما هو مفهوم الديمقراطية التي يقول عنها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إن لديها "الكثير لتقدمه". هل "كثيرها" حروب جديدة يدعي من يشنها أنه قادر على تلقين الآخرين دروسا في فن الحياة، أم أزمات اقتصادية، وبطالة وكوارث بيئية. على الأقل يعترف ماكرون أن الديمقراطية ليست النموذج الوحيد. بالنسبة إليه هناك ديمقراطيات ليبرالية، وأخرى وصفها بأنها أقل ليبرالية. بالتأكيد الميزان، الذي وزن به ماكرون الديمقراطيات، صنع فرنسي مئة بالمئة.. وحتما لا مكان فيه للقوى الشعبوية التي يتصاعد حضورها في أوروبا والولايات المتحدة. رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي قالت إن بلادها ستواصل الدفاع بشكل لا لُبس فيه عن الديمقراطية الليبرالية، وحماية حقوق الإنسان، والمساواة بين جميع الفئات. كلام جميل، لكن لن يصدقه أحد حتى ناخبيها. بوريس جونسون المرشح لخلافة ماي، لا يجد حرجا في ادعاء أنه يفهم الشباب الروسي أكثر مما يفهمون هم أنفسهم، وأن بوتين “مخطئ تماما”. درس التاريخ القريب، والقريب جدا، علم بوتين أن الأيديولوجيات والعقائد عندما تدخل بلدا تخربها. وقريبا عندما تحيل الأجيال الشابة عجائز السياسة إلى التقاعد، يفهم هؤلاء لماذا استبدل المؤمنون الخبز بالهاتف الذكي في صلاتهم. ربنا أهدي قادتنا العجائز طريق الصواب، وامنحنا الهاتف الذكي وتوابعه.. آمين.