توجد كثير من الظّواهر في الْحَياة والأدب والثقافة في منطقة الظل، أي لَمْ تَنَلْ حَظَّها من الدراسة والتّحْليل الْعَميقين، يَمُرُّ بِها الباحثون عَرَضا، بَيْنما هي، في الْحَقيقة، تُغني أعْمالَهُم الإبداعية، سواء الأدبية أو الفنية، بِجُمْلة من الْمُؤَثِّرات الْخَفية في تشكيل تضاريس الشخصية الإنسانية، منها الإيجابي ومنها السلبي، بطبيعة الْحال. أذكر، على سبيل الْمثال: ظاهرة (الانتحار) ومن (عُشّاقه) الأديب الأردني تيسير سْبول، وأرنست هِمِنغواي، وفرجينيا وولف، وهؤلاء لَمْ يوَفِّقوا بين حركية الواقع وحركية الإبداع، فوضعوا حَداّ لِحَياتِهم! وظاهرة (الاغتيال) ومن ضَحاياه الشاعر الْجاهلي طَرَفة بْنُ العبد، والروائي الفلسطيني غسّان كنفاني، والأديب الْمَغربي مُحمّد الْقُرِّي، الذين دفعوا حياتَهم ثَمَنا لِمَبادئهم وقيمهم العليا! و(الْموت الْمُبكِّر) الذي طال الشعراء أحْمَد برَكات ومصطفى الْمَعْداوي وأبا القاسِم الشّابّي وجونْ كيتْسْ، إذ كان لَهْم الْمَرض الْمُزمن، أو الْحادثة الْمُروعة بالْمِرصاد، لكنهم خلّفوا من الإبداع ما لَمْ يُخَلِّفه آخرون، عاشوا (ثَمانين حوْلاً ولا أبالَهُمْ يسْأم)! وظاهرة (سُلطة الأب) التي تَمَرّد عليها كلٌّ من شاعر القطرين خليل مطران، والروائي مُحمّد شكري، والكاتبين تينيسي وِلْيامْزْ وجولْ فيرْنْ، فأفرزتْ نصوصا رائعة في السيرة الذاتية، وروائية في الْخَيال العلمي! و)الطفولة( كخلفية ثقافية وأدبية، ينطلق منها الأديب والفنان معا في تكوين رؤيته الكُليةَ للحياة. ف)مُحاولة عيْش( التي عدّها الروائي العربي الكبير بَهاء طاهر من الروايات الرائعة التي قرأها في حياته، كما قال لي في مؤتَمر الرواية العربية، الْمُنْعقد بالقاهرة خلال دجنبر 2011 ماهي إلا تَصوير لِحالَة اجتماعية قاسية، من خلال عيني الطفل مُحَمّد زفزاف، عاشها بين حَيِّ الصفيح والْميناء بِمَدينة القنيطرة. وغابرييل غارسيا ماركيز نفسه، ينطلق في حكاياته العجيبة الغريبة من دور الصفيح التي أمضى فيها طفولته بين والديه وجديه. كان خلالَها يستقي من الأخيرين حكايات (مائة عام من العزلة)! وهناك ظاهرة أخرى، تتمثل في علاقة الكاتب ب)فن الطّبخ( إذا جاز التعبير، فأمبرتو إيكو يعتبر الطبخ من أكبر فنون العالَمِ، يُجَسِّد حضارةَ الشعوب وتطورَها، كما لعب دورا في رواية فْلوبِّيرْ «مدام بوفاري»في توجيه الشخصية الْمِحْوريّة، نَحْو النهاية الْمَحتومة! وهكذا يُمْكننا أن نستحضر العديد من هذه الظواهر الْمَسكوتِ عنها، ومن يُمَثِّلونَها في الشرق والغرب، ومدى تأثيرها في حياتِهم وإبداعاتِهم، لكننا نكتفي بِهذا القدر اليسير، لنخلص إلى ظاهرة أخرى، وهي (النُّضْج الْمُبَكِّر)! فالْمُفكِّر الْمَغربي عبد الْهادي بوطالب يذكر في سيرته الذّاتية (هذه قصتي) أنه انْضَمَّ إلى الْخَليّة السِّريّة لِمُقاومة الوُجود الاستعماري في السنة التاسعة من عُمُره، وتلقى الدروس الوطنية على يد العالِمَين الْهاشِمي الْفيلالي وإبراهيم الْوَزّاني، فأصبح، وهو في عمر الزهور، أستاذا بجامعة الْقَرَوِيِّينَ، حتّى أن العميلَ عبدَ الْحَيِّ الْكتّاني كان يُرَدِّد على طُلاّبه الْمُتَحَلقينَ حوله: «إن الله أذَلَّ القرويين: أصبح فيها الفَلاليسُ (الْفِراخ) يُدَيِِّكونَ»! وأمّا الأستاذ علاّل الفاسي، فإنّه غدا شاعرا، يَنْظِم القصائدَ الطِّوال، ويُحِسُّ بِثِقْل الْمَسؤولية على عاتقه، وهو فَتًى، لَمْ تَتَجاوزْ سِنُّه الْخامسةَ عشْرَةَ، عِلْماً بأنه انْخَرط في العمل الوطني قبل هذه السِّنِّ! يقول في النص الشعري الشَّهير (سيعرِفني قومي): أبعْدَ مُرورِ الْخَمْسَ عَشْرَةَ ألْعبُ وألْهو بِلَذّاتِ الْحَياة وأطْرَبُ ولايَنْحصِرُ هذا النُّضْج الْمُبَكِّر في الذَّكَر، بل يَمْتَدُّ إلى الأُنْثى، في حِقْبة زمنية عَصيبة، لَمْ يَكُنْ يُسْمَح فيها للفتاة بالتّعلُّم والْعَمَل، والْمُشاركة في الْحَقْل السِّياسي والثقافي. ونستشهد ب(ثُرَيا الشّاوي) التي حَرّضتْ صَديقاتِها على مقاطعة الدِّراسة، حتّى يتَحَرّر الْمَغرب من عهد الْحَجْر والْحِماية، وهي ابنةُ سِتِّ سَنَوات. وأُلْقِيَ القبضُ عليها في هذه السِّنِّ، لِتَكشِف أسْماءَ الذين كَلّفوها بذلك، فامْتَنعتْ برَغْم الْوَعيد والتّهْديد، والتّرغيب حينا، والتّرهيب حينا آخرَ. ثُمّ مَثّلتْ شريطا سينمائيا عالَمِيا صُحْبةَ والدِها عبد الرّحْمان، في هذا العمر نفسه. وفي الثّانيةَ عشْرةَ، هاجَرتْ إلى تونُسَ لتُجيدَ (الكتابة) على الآلة الكاتبة، فكانت أولَّ فتاة مغربية تُحْرِز على شَهادة الرقانة. هذا فضْلا عن كونِها أوّلَ مُذيعة مغربية، وأصغرَ رُبّانة طائرة في العالَم، وأوَّلَ من ألّفتْ كتابا في عِلْم الطّيران، ثُمّ غادرتنا في عِزِّ شبابِها وعَطائها! إذنْ، ألا تَسْتَحِقّ هذه العبقريات الذّكوريّة والأُنثويّة، بَحْثا وتَحليلا للظروف العامّة التي ساهَمت في تكوينها وبُروزها، لتؤدي رسالة نبيلة في دار الفناء، ثُمَّ ترحل عنا إلى دار البقاء؟! ويُمْكِنني أن أقول بلاتَحَفُّظ إن الْجَوّ الْعامَّ حينَئِذٍ، كان يُساعد على النُّضج الْمُبَكِّر، لأن الوطنَ كلَّه، بِمُدنه وقُراهُ (يغلي) بالْحَركات الوطنية والسياسية والدّينية والثّقافية والاجْتِماعية. ولَمْ يكنْ إلاّ الكِتاب والْمِذياعُ والْحاكي والسّينما، مِمّا يُتيح للطفل التّفكيرَ في مستقبله ومستقبل وطنه. عكسَ اليوم، الذي يَجِد فيه نفسَه موزّعا بين عشرات الألعاب الآلِيَّة، ووسائل الاتِّصال والتّرفيه والتَّسْلية، والشبكة العنكبوتية، الشيء الذي يعزِله عن مُجْتمعه وقضاياه، بل عن أسْرتِه بِرُمّتِها، إذا لَمْ يُحْسنِ التعاملَ والتواصلَ معها طبعا! وفي كل الْحالات، كانت تلك العبقريات، التي أينعتْ ونضجتْ قبل أوانِها، بين الْمَوت والْحَياة، لأنّ أصحابَها تعرّضوا للاعتقال والتّعذيب والنّفي، ومنهم من لَفَظ نفَسَه الأخير بين أيدي الْمُسْتَعْمرين، كالكاتب والْمَسرحي مُحَمّد القُرِّي! وهناك من أُفْلِتَ بأُعْجوبة من الْقَتْل، وظلّ حَياّ إلى يَومِنا هذا، لكن الْمَوت مازال ماثِلا بين عينيه، لايَدْري هل هو حَيٌّ، فِعْلاً، أمْ مَيِّت؟! صَدِّقوني (ومن كذّبَك؟!) إنْ قلتُ لكم: لقد حاولتُ أن أنسى أو أتناسى تلك اللّحَظاتِ القاتِمةَ التي عشتُها، وأنا طفل صغير، لاتتعدّى سِنّي سبعةَ أعوام! هناك من سيعترض قائلا: كيف تدّعي أنك قُمتَ بِما قمتَ به، وأنتَ من مواليد 1951 بدون تاريخ اليوم والشهر، كما ثُتْبِتُ بطاقتك الشخصية، إذ كانتْ سِنُّك لاتتعدّى أربعَ أوخمسَ سنوات؟! أليس من الْخَطل أن تَحْشُر أنْفَك في النِّضال الوطني، ولو ب(الصدفة)؟! حقّا ما لاحظتُم، لكنْ (إذا عُرِف السّبب، بَطُل العجب) على ماعَلّمونا منذ نُعومة أظفارنا. ففي دَفتر الْحالة الْمَدَنية، نقرأ تاريخا آخرَ مُلْغًى، وهو 30/06/1948 بِحُكْمٍ صادرٍ عن الْمَحْكمة، يَخْفِض من سِنّي، كي أتابع دراستي بالتعليم العمومي! وهكذا يتّضح للسائل النّبيهِ أنّني كنتُ أبلُغ من الْعُمر، حينئذٍ، حوالَيْ سِتّ سَنَواتٍ وثَمانيةَ أشهر إلاقليلاً، لأن الواقعة، فيما يبدو لي، كانت في 19 أو20 غشت 1955.. والنّاس، في ما أذكر، كانوا يتداولون بعدها أن الفرنسيين سيُغادرون الْمَغْرب قريبا، وكذلك كان! وحتى الوثائق التي حصَلتُ عليها، تشير إلى هذا التاريخ، لكن تقاريرها تتضمّن خطأ، يَمَسّ مُنَفِّذي العمل الفدائي. ذلك أن شخصا ما، أراد أن يَحْظى بتنفيذ العملية، وعندما ناقشتُه في طريقة إنْجازِها، وحاصرتُه بالأسئلة، دون أن أكْشِف له نفسي، اكتشفتُ ألاّ علاقةَ له بِها. واعترف لي بأنه كان ينْوي الْمُشاركة فيها، لكنه عَدَل عنها في آخر لَحْظة، مِمّا أرغَمه على الاعتراف بشخصين آخرين قاما بالعملية! لكن، ألايَجْدُر بي أن أحكي الْحِكاية من بدايَتها؟ولابأس أنْ أرفُقَها بِحِكاية أخرى، كادت هي كذلك أن تقضي عليَّ، لولَمْ ينزل لُطْف من الله! وهذه الْحِكاية، قصصتها باختصار في سيرتي الذاتية الأولى، الْمَوْسومة ب»سفر في أنْهار الذّاكرة»الصادر سنة 1987 وليستْ من )وحي الساعة( أوطَمَعا في )حُطام الدنيا( فما لديّ يكفيني، ولله الْحَمْدُ والشكر من قبلُ ومن بَعْدُ!.. إذن، لأبدأْ بالأولى: ذت يوم، أخذني والداي إلى حَمّة )سيدي حرازم( التي تبعد عن فاس باثني عشرَ كيلومترا، ولَمْ تكن هذه أول مرّة نزورها، ففي كل جُمُعة، وهو اليوم الذي كان عطلةً أسبوعيةً بالْمَغرب، تُعَطَّل فيه كافةُ الْمؤسسات الرسْمية، والْمَعامل والمتاجر. كنا نسافر في الْحافلة، أوالقطار الْمُتَوجِّه إلى مدينتي تازة ووجدة، فننزل في مَحَطة، لاتبعد كثيرا عن الْحَمّة، ونقصدها حاملين أغطيةً وأوانيَ وأطعمةً، لنستأجر كوخا قصبيا، نقضي فيه يومنا!