محمد نبيل بنعبد الله رجل أناقة, فن ودبلوماسية, صارم في تعامله, مضبوط في مواعده, واضح في مواقفه, قدير على الإنصات والتواصل بدت عليه علامات الإعياء والتعب وهو يكاد بالكاد يجر رجليه غير آبه بنظرات مسانديه، ولا شزر مناوئيه. كان مطأطأ الرأس وهو يعبر ساحة مركب بوزنيقة جيئة وذهابا صباح أمس، وعلى شفتيه ابتسامته المعهودة. يشعرك أنه متفائل بالفوز حينا، وتوميء نظرات عينيه الغائرتين في محجرهما، من قلة النوم، أن لا شيء محسوم بعد. قبل أن يكسر صوت الشعارات والهتاف باسمه لحظات الانتظار المميت الممتد على طول الليل إلى الساعات الأولى من الصباح بشيرا باعتلائه قيادة الحزب. بعد زهاء ثلاثة عقود من النضال المستمر طبعه مسار سياسي متميز لرجل بكل المواصفات القيادية، حمل رفاق علي يعته وعبد الله العياشي، في ختام مؤتمرهم الوطني الثامن، محمد نبيل بنعبد الله مسؤولية قيادة حزبهم وبوؤوه سدة الزعامة، فوضعوا على عاتقه طوق المسؤولية. القائد الجديد لسفينة حزب التقدم والاشتراكية ليس شخصا عاديا أو مغمورا، فقد نهل من معين المبادئ الكبرى للنضال السياسي وهو لا يزال في ريعان شبابه، ورسم لنفسه مسارا يعتبره "متواضعا" بالمقارنة مع الشخصيات الفذة التي بصمت تاريخ الحزب ببصماتها التي لا تمحى، فالتواضع من سمة العقلاء. وهو معروف بين رفاقه وشهرته تتجاوز بكثير حدود حزبه. في سن مبكرة، انتقل الشاب ذو الثمانية عشر ربيعا إلى عاصمة الأنوار لمواصلة دراسته، بعد أن قضى الفترة الأولى من تعليمه في مسقط رأسه بالرباط، بمدرسة "سانت إكزوبيري" ثم بثانوية ديكارت التي حصل بها على شهادة الباكالوريا سنة 1977. بفرنسا سيلج المعهد الوطني للغات والحضارات الشرقية. وبالعاصمة باريس تفتحت ذهنية الشاب القادم من حي اليوسفيةبالرباط، حيث تربى وترعرع، للانخراط في العمل السياسي في وقت لازالت فيه فرنسا تتجاذبها تجربة ماي 68 وما خلفته من زخم سياسي. وطوال سنوات تحصيله العلمي تبوأ مناصب متقدمة في المنظمة الطلابية "الاتحاد الوطني لطلبة المغرب" حيث سيصقل مداركه السياسية لكسب التجربة التنظيمية. شعاره في ذلك الدفاع عن المبادئ التي آمن بها دوما. عاد محمد نبيل بنعبد الله في سنة 1985 إلى المغرب، يحمل معه دبلوما في الترجمة، ومعه تجربته الغنية في العمل السياسي، وحلم الإسهام بفعالية في الفعل السياسي. ثلاث سنوات بعد عودته إلى المغرب سيتربع على كرسي زعامة الشبيبة المغربية للتقدم والاشتراكية، في الفترة ما بين 1988 إلى 1994، ويقول مجايلوه في تلك الفترة إن هذه المنظمة عرفت واحدة من أزهى فتراتها في عهده. وفي عهده أيضا ستتحول المنظمة الشبابية لحزب التقدم والاشتراكية حاملة اسما جديدا هو "الشبيبة الاشتراكية"، وهو الاسم الذي لازالت تحمله الآن. التحول لم يقتصر عند تغيير تسمية الشبيبة وإنما أيضا تحويل قائدها من صفة كاتب أول إلى صفة رئيس. لم يتوقف طموح نبيل بنعبد الله السياسي عند هذا الحد، حيث سينتخب عضوا باللجنة المركزية للحزب في نفس سنة توليه المسؤولية الأولى في الشبيبة المغربية للتقدم والاشتراكية. ثم بعد ذلك عضوا بالديوان السياسي في سنة 1995. كان يعتبر من القيادات الشابةالجديدة داخل الحزب، ونموذجا للنخب الجديدة الذي اقتدت به أحزاب أخرى فيما بعد. هذا المسار الطموح والمتميز رصه بعصامية وعناد، فهو ليس من طينة الذين ورثوا المجد والجاه أو ولدوا وفي فمهم ملعقة من ذهب، بل كان عصاميا في تكوينه وفي تسلقه مراتب المسؤولية، لم يغدق عليه أحد من فيض عطفه، ولم يعرف عنه أن استكان إلى عراب يزكيه. يعترف له خصومه، وهم قلة قليلة، قبل أصدقائه الكثيرين والمقربين منه، أنه مناضل فذ، ومدافع شرس عن أفكاره ومبادئه التي يؤمن بها حد النخاع، غير مهادن في بسط أفكاره، إلى درجة العناد دون تعصب متحجر، مفاوض من الطراز الكبير ومتحدث بارع يعرف متى يطلق العنان لفصاحته للإقناع، ومتى يحجمه بفضل إتقانه للغات عديدة إلى حد تطويعها. يقول عنه أحد أصدقائه إنه "يزن كلماته قبل أن ينطق بها" وأنه "محاور لا يشق له غبار". وهو ما يسر له سبل التواصل مع الرأي العام والفاعلين، يلبس كل موقف لبوسه، ويتكيف مع كل موقف تكيفا مدهشا. خلال كل المحطات ومراحل المسؤولية التي تقلدها، كان دائما يترك بصماته أينما حل وارتحل، يقود بحنكة وشجاعة، ويغير دون ضجيج أو حلبة. كان وراء تغيير اسم شبيبة الحزب، وكان مهندس تحديث الجريدتين الناطقتين باسم الحزب، بصم مروره بالمجلس الوطني للشباب والمستقبل، حينما كان عضوا بمجلسه الوطني... كان من أشد المدافعين عن تجربة التناوب، في بدايتها، كان مؤمنا بأنها السبيل الوحيد أمام المغرب لدخول عهد الممارسة الديمقراطية، حتى قبل أن يصبح عضوا في حكومة إدريس جطو مكلفا بحقيبة الاتصال، وناطقا رسميا باسم الحكومة. وظل وفيا لمبادئه التي دافع عنها. ورغم أن البعض اعتبر فترة توليه هذه الحقيبة اتسمت بنوع من التراجع ، إلا أنهم لا ينكرون أن الفترة ما بين 2002 و2007 التي تقلد فيها حقيبة الوزارة، في حكومة جطو الأولى والثانية، تحققت فيها العديد من المكتسبات الهامة في المجال الإعلامي، منها على سبيل المثال لا الحصر، تحرير الإعلام العمومي، وعقد المناظرة الوطنية للصحافة التي تمخض عنها توقيع الاتفاقية الجماعية بين النقابة الوطنية للصحافة المغربية والفدرالية المغربية لناشري الصحف، وتقنين الدعم العمومي المخصص للصحافة المكتوبة، وكان قاب قوسين أو أدنى من إحراز "الهايتريك" في لغة لاعبي كرة القدم، لو استطاع إنجاز آخر ورش في هذا الإصلاح الذي بدأه، بإخراج قانون الصحافة إلى حيز التطبيق. إلا أن ظروفا أقوى منه حالت دون ذلك، حتى لا يقال إن الوزير بنعبد الله حقق ما لم يحققه غيره في هذه الوزارة. وسيعترف الصحفيون ومهنيو الإعلام على الأقل، أن الوزارة المكلفة بشؤون أحوالهم، تحولت في عهد محمد نبيل بنعبد الله من مجرد ملحقة بوزارة أخرى، الداخلية أو الخارجية أو حتى الثقافة مثلا، أو كتابة لدى الوزير الأول مهمتها توزيع بطائق الصحافة، إلى وزارة "كاملة مكمولة" بكل ما تحمل الكلمة من معنى. الأمين العام المنتخب الذي بدأ مهمته الجديدة بالإصرار على إعطاء روح ونفس جديد، وفي لمبادئه وقيمه، لا يضاهيه إلا وفاؤه لأصدقائه، الذيني تشده إليهم وشائج متينة، منهم أترابه منذ الطفولة، ومنهم من نسج معهم علاقات خلال مساره السياسي أو المهني، والذين لا يزالون يحتفظون بذكريات جميلة معه. عن بعد يبدو وكأنه متكبر ومتعجرف، لكن سرعان ما يتغير هذا الانطباع عند الاقتراب أو التقرب منه، لتكتشف فيه سمات وأوصاف إنسانية قلما تتوفر في كثير من سياسيي هذا الزمن، ولما تتبدد المسافة النفسية بينك وبينه، تكتشف فيه أشياء قد تدهشك، محب للمرح والنكتة، فحتى في أصعب اللحظات يحول مواقف حرجة إلى لحظات للتندر والفكاهة. لا يضع حواجز مع محيطه كوسيلة مثلى للتفريج عن الكرب. صارم في تعامله، مضبوط في مواعده، متحد في مواقفه، جيد الإقناع بأفكاره، سريع التأثر في المواقف الإنسانية النبيلة، حليم متسامح، تنتابه حينا لحظات الغضب سرعان ما تنطفئ جذوتها عندما يدرك أنه على خطأ أو جانب الصواب، وتلك فضائل العقلاء. يحرص على تمتين علاقاته الاجتماعية، في محيطه الأسري والعائلي. يرتبط بعلاقة حميمية خاصة بوالدته التي تتوطد يوما بعد يوم ولاتزال، وبعلاقات ود مع أشقائه. عاشق للفن ويهوى الموسيقى والطرب، ميولاته في هذا الاتجاه غير محدودة ولا منحصرة، يستمع إلى كل الأصناف والأنواع، إلا أنه يطربه غناء وردة الجزائرية، تماما كما يعشق ألحان إيريك كلابتون، ويحفظ عن ظهر قلب كل أغاني عبد الوهاب الدكالي. جمع بين إدارة جريدتي البيان وبيان اليوم وعمله في مكتب الترجمة بشارع علال بن عبدالله بالرباط، الذي افتتحه منذ تخرجه من فرنسا وعودته إلى المغرب؛ حيث، سنتين بعد التحاقه بالديوان السياسي، قبل أن يغادر المهمة الأولى في سنة 2002، بعد أن كان وراء تحويلها إلى شركة مساهمة، ومؤسسة إعلامية تتبنى الأفكار والمبادئ السياسية للهيئة المالكة لها، بتدبير يختلف مع ما عهد في الصحافة الحزبية آنذاك، في خضم بروز الصحافة المستقلة بالمغرب. وتشاء الصدف أن تناط به مهمة التواصل داخل الديوان السياسي منذ 1995، قبل أن يصبح وزيرا للاتصال وناطقا رسميا باسم الحكومة. وانتخب خلال الانتخابات الجماعية لسنة 2003 مستشارا جماعيا بمقاطعة أكدال الرياض، وفي نفس الوقت عضو بمجلس مدينة الرباط لنفس الفترة. وستظل صور لحظة العناق بين المتنافسين عالقة في أذهان الحاضرين، وإن كان تنافسا لا يفسد للود قضية بين الرفاق، أسمى تجليات مهما كانت الظروف والملابسات. وحدة قوامها الاحترام والتقدير ليس فيها رابح ولا خاسر، خرج منها الحزب منتصرا رسم نموذجا حيا للممارسة الديمقراطية.