عدا عن إعصارين ضربا الجزء الشمالي لشبه الجزيرة العربية، تميزت الشهور الأخيرة لعام 2018 بسيول هادرة اجتاحت عدة بلدان عربية، من تونسوالأردن وفلسطين ولبنان، وصولا إلى السعودية والكويت وقطر. ففي الأردن، جرفت السيول عشرات الأشخاص إلى حتفهم في منطقة البحر الميت، كما أغرقت شوارع العاصمة عمّان عدة مرات. وضربت الفيضانات مناطق في السعودية وقطر وتونس وفلسطين، وتسببت بأضرار مادية كبيرة وسقوط ضحايا. أما في لبنان، فتم تعليق الدراسة لأيام متعددة بسبب السيول. وقبل هذا، كانت السيول ضربت العراق في فبراير والجزائر في أبريل. أما النصف الأول من سنة 2019، فتميز بفيضانات هائلة في إيران، تسببت بعشرات القتلى ودمار في مناطق شاسعة وإخلاء عشرات آلاف الأشخاص. الفيضانات التي يسببها هطول غزير للأمطار لفترات طويلة، أو موجة مطر كثيفة خلال فترة قصيرة، أو ذوبان سريع للثلوج، ظواهر طبيعية تحصل دوريا. لكن تكرارها على نحو متسارع وشدة حدتها خلال السنوات الأخيرة كان وراء تأكيد المجتمع العلمي أنها من المظاهر المتقدمة لتغير المناخ. وما يفاقم الآثار الكارثية للسيول والفيضانات أن تصميم البنى التحتية في كثير من دول المنطقة لم يلحظ استيعابها، ولم يتم وضع خطط طوارئ لمواجهتها، إلى جانب السماح بالبناء في حالات كثيرة في المجاري الطبيعية للسيول، ما يتسبب بفيضانها إلى المناطق المحيطة. عدا عن الفيضانات والسيول، ضرب منطقة بحر العرب إعصاران قويان عام 2018. فالإعصار الاستوائي «مكونو» وصل في مايو إلى المنطقة الواقعة في الطرف الجنوبي لشبه الجزيرة العربية، وألحق أضرارا في عمان واليمن والسعودية. وفي أكتوبر 2018، ضرب الإعصار «لُبان» شمالي اليمن وعُمان. وأوقع الإعصاران عشرات القتلى، كما تسببا بخسائر كبيرة في الممتلكات. أعاصير 2018 تتجاوز المعدلات وأشار تقرير «حالة المناخ العالمي في 2018»، الذي صدر مؤخرا عن المنظمة العالمية للأرصاد الجوية، إلى تضرر نحو 62 مليون شخص خلال السنة الماضية بفعل استمرار ظواهر الطقس المتطرفة. ومن بين 281 ظاهرة مرتبطة بالطقس قام مكتب الأممالمتحدة للكوارث بتحليلها، كان الإعصار «فلورنس»، الذي ضرب الولاياتالمتحدة في سبتمبر 2018، هو الأكثر ضررا من الناحية الاقتصادية، حيث تسبب مع الإعصار ميتشل بخسائر بلغت 49 مليار دولار وأدى إلى وفاة أكثر من 100 شخص. كما ألحق الإعصار «مانغوت» ضررا بأكثر من 2.4 مليون شخص، وتسبب في موت ما لا يقل عن 134 شخصاً، معظمهم في الفيليبين. وكان إعصار «إيداي»، الذي ضرب موزمبيق نهاية الشهر الماضي، تسبب بمقتل نحو 700 شخص وانتشار مرض الكوليرا بين الآلاف، إلى جانب أضرار أصابت ملايين السكان. واعتبرته المنظمات الدولية الإعصار الأكبر الناجم عن تغيّر المناخ الذي يضرب أفريقيا. لكن الاستجابة الدولية البطيئة لمساعدة المتضررين من إعصار موزمبيق أظهرت إنعدام العدالة في مواجهة كوارث التغيّر المناخي: فالدول الأكثر تأثراً هي الأقلّ قدرةً للتعامل مع النتائج. وتتشكل الأعاصير فوق مياه المحيطات الدافئة بالقرب من خط الاستواء، ولذلك يمكن اعتبارها كمحركات ضخمة تعتمد على الحرارة التي تؤدي إلى تبخر مياه البحر بسرعة. يرتفع بخار الماء عبر الجو ويتكاثف على شكل سحب وقطرات ماء، مما يؤدي بدوره إلى مزيد من الارتفاع في الحرارة. ويتابع الهواء الحار المشبع بالرطوبة ارتفاعه إلى الأعلى، مشكلاً عناقيد من عواصف رعدية متضخمة، تُعرف بالاضطرابات الاستوائية. حالما يبدأ هذا المحرك الحراري بالدوران، يستمر التكاثف السريع داخل العاصفة في دفع الهواء للأعلى، ويحل مكانه هواء أقل سخونة قادم من الأسفل. ويؤدي شفط الهواء الساخن من سطح المحيط إلى انخفاض متتابع في ضغط الهواء. وعندما يندفع الهواء من الضغط العالي إلى الضغط المنخفض، يتسبب في نشوء رياح عاتية. وما أن تصل سرعة الرياح إلى 60 كيلومترا في الساعة تدعى العاصفة المتشكلة بالمنخفض الاستوائي. يظهر الإعصار في صور الأقمار الاصطناعية على شكل دوامة من السحب. وتنتج الحركة الدورانية في الإعصار بسبب قوتين رئيسيتين، الأولى هي قوة كوريوليس الناتجة عن كروية الأرض ودورانها حول محورها، والثانية ناشئة عن تدرج الضغط بين الكتل الهوائية. في نصف الكرة الشمالي، يسحب دوران الأرض الرياح إلى اليمين، لكن الضغط المنخفض في مركز (عين) العاصفة يعيدها إلى اليسار، مما يخلق دورانا سريعا عكس عقارب الساعة. وتنقلب الآية جنوب خط الاستواء، حيث يكون الدوران مع عقارب الساعة. مع توقف المحرك الحراري، نتيجة انخفاض حرارة سطح المياه بفعل اقتراب العاصفة من اليابسة، يزداد تكاثف المياه وترتفع حرارة الهواء أكثر، ويؤدي ذلك إلى تناقص الضغط بشكل أكبر وازدياد الدوران وارتفاع سرعة الرياح لتبلغ نحو 60 إلى 120 كيلومترا في الساعة، مشكلة عاصفة استوائية. سبع من كل عشر عواصف استوائية تدور رياحها بسرعة تزيد عن 120 كيلومترا، وهي عند هذه الحد تدعى رسميا بالإعصار. توجد سبع مناطق (أحواض) لتشكل الأعاصير في المياه الدافئة. ويطلق على الإعصار تسميات مختلفة، بحسب المناطق التي يتشكل فيها، فهو «هاريكاين» (Hurricane) فوق المحيط الأطلسي وشمال شرق المحيط الهادئ، و»تايفون» (Typhoon) في شمال غرب المحيط الهادئ، و «سايكلون» (Cyclone) في شمال المحيط الهندي، كما في الأحواض جنوب خط الاستواء، التي تشمل جنوب غرب المحيط الهندي وجنوبه الشرقي وجنوب غرب المحيط الهادئ. هل يمكن وقف الأعاصير؟ تتأثر الدول العربية في مناطق القرن الإفريقي وجنوب شبه الجزيرة العربية بالعواصف الاستوائية، التي تتشكل في حوض شمال المحيط الهندي، حيث يمتد موسم العواصف بين بداية شهر إبريل ونهاية ديسمبر من كل عام. ويعتبر هذا الحوض هو الأقل فعالية بين الأحواض الأخرى، إذ يشهد ما بين 4 إلى 6 أعاصير فقط في السنة، لكنه يعد الأكثر تسببا بالوفيات عالمياً، لأنه يطال دولاً ذات كثافة سكانية عالية، كالهند وباكستان وبنغلادش. ويشير تقرير «حالة المناخ العالمي في 2018» إلى فعالية كبيرة في الأعاصير الاستوائية في نصف الكرة الشمالي، حيث تجاوز عدد الأعاصير في سنة 2018 المعدل السنوي للأحواض الأربعة، فبلغ عددها 74 إعصارا، في حين أن المعدل هو 63 إعصارا. وكان عدد الأعاصير في نصف الكرة الجنوبي 22 إعصارا خلال الموسم نفسه. ويشير التقرير إلى أن حوض شمال شرق المحيط الهادئ حظي بفعالية غير مسبوقة هذه السنة، فالشدة التراكمية للأعاصير التي تشكلت في هذه المنطقة وزمن فعاليتها تجاوز معدلات أعاصير السنوات السابقة منذ بداية توثيق معطيات الأقمار الاصطناعية قبل نحو 50 سنة. يعتمد تشكل الإعصار على عاملين هما درجة حرارة المحيط وحركة الرياح. ومع ازدياد انبعاث غازات الدفيئة وارتفاع حرارة مياه البحر، من المتوقع أن تصبح الأعاصير أكثر تواترا، وربما تتحول في السنوات القليلة المقبلة إلى ظاهرة تتكرر بشكل اعتيادي. لكن هل من سبيل للتخفيف من حدة الأعاصير أو منع تشكلها في المحيطات؟ يتطلب تشكل الأعاصير أن تزيد درجة حرارة سطح البحر عن 26.5 درجة مئوية، فإذا انخفضت عن هذا الحد سيكون من المستحيل حصول الإعصار. وتعد براءة الاختراع المعروفة باسم «بالوعة سالتر»، المسجلة باسم المهندس البحري البريطاني البروفيسور ستيفن سالتر والملياردير بيل غيتس، من بين الأفكار المطروحة لخفض درجة حرارة سطح البحر في أماكن ولادة الأعاصير. وتعتمد خطة سالتر-غيتس على تعويم آلاف الحلقات الشبيهة بالإطارات في المياه الاستوائية للمحيط الأطلسي. وتتصل أنابيب عملاقة بهذه الحلقات لتمتص المياه السطحية الدافئة، وتضخها في عمق المحيط، فتحل مكانها مياه باردة قادمة من القاع. ويطرح الدكتور جون لاثام وزملاؤه من جامعة مانشستر خطة بديلة لتبريد حرارة سطح البحر من خلال تسيير أسطول من السفن غير المأهولة في المياه الأطلسية الدافئة. وتعمل هذه السفن على ضخ مياه البحر على شكل رذاذ في الغلاف الجوي، ما يجعل السحب في الجو أكثر لمعاناً. ونتيجة لذلك يزداد انعكاس حرارة الشمس باتجاه الفضاء، مما يؤدي إلى انخفاض درجة حرارة سطح البحر، وتصبح الظروف غير مهيّأة لتشكل الأعاصير. يمكن تصنيف هذه الأفكار ضمن هندسة المناخ الانتقائية، التي تتضمن العبث بدرجات حرارة المحيطات وتشكيل السحب، وربما ينتج عنها مفاجآت غير متوقعة تلحق ضررا بأنماط الطقس العالمية. يقترح المهندس مارك جاكوبسون وزملاؤه من جامعة ستانفورد في كاليفورنيا طريقة تنطوي على مخاطر أقل وتعتمد على تقنيات مستخدمة بالفعل لأغراض أخرى، وهي مزارع الرياح البحرية. فوفقا لجاكوبسون، يمكن لتوربينات توليد الكهرباء من الطاقة الريحية أن تحمي المناطق الساحلية عند اقتراب الأعاصير، إذا جرى تحديد مواضعها واتجاهاتها بشكل مناسب. مزارع الرياح البحرية .. طوق نجاة استخدم جاكوبسون وفريقه نموذجا حاسوبيا لمحاكاة ثلاثة من أكثر الأعاصير تدميرا خلال السنوات الأخيرة، «ساندي» في 2012 و»إسحاق» في 2012 و»كاترينا» في 2005. واستخدموا في المحاكاة مزارع ريحية ضخمة في عرض البحر تقع عبر مسارات هذه الأعاصير، فجاءت النتائج مرضيةً للغاية. فقد استطاعت توربينات الرياح «الافتراضية» قبالة ساحة نيو أورليانز خفض سرعة الرياح القصوى للإعصار «كاترينا» من 280 كيلومتراً في الساعة إلى 145 كيلومترا في الساعة، وانخفضت شدة العاصفة المرافقة التي تسببت بفيضانات هائلة بنحو 80 في المائة. كما تمكنت مزارع الرياح البحرية من إنقاص سرعة رياح الإعصار ساندي من 185 إلى 140 كيلومتراً في الساعة، مع تراجع شدة العاصفة المرافقة بمقدار الثلثين. وتعمل شفرات التوربينات الريحية على إعاقة وإبطاء الرياح الدورانية في الأجزاء الخارجية من العاصفة، مما يقلل من ارتفاع أمواج البحر تحتها وإبطاء حركة الهواء نحو المركز ورفع الضغط الجوي في وسط الإعصار. وبفضل تناقص فارق الضغط بين عين الإعصار ومحيطه الخارجي، تتباطأ سرعته ويتلاشى بشكل أسرع. تبدو مزارع الرياح البحرية طريقة مغرية لإصابة عصفورين بحجر واحد، ولكن هناك مشكلة تتمثل في الأعداد الهائلة من التوربينات المطلوبة لتحقيق هذه الغاية. في حالة النموذج الحاسوبي للإعصار «كاترينا»، تطلب الأمر 78 ألف توربين، في حين أن أعلى كثافة لمزارع الرياح البحرية اليوم هي في بحر الشمال، حيث يوجد 1500 توربين فقط. ومع ذلك، فمن الجيد أن نعلم أن هناك تقنية خضراء يمكن لها أن تولد كميات هائلة من الطاقة المنخفضة الكربون وتساهم في الوقت نفسه بمعالجة تهديد الأعاصير، وهذه التقنية متاحة إذا أردنا استخدامها. لكن كل هذا لا يلغي ضرورة تسريع الإجراءات الجدية للحدّ من ارتفاع حرارة المحيطات بسبب التغيّر المناخي، وضرورة وضع خطط طوارئ عملية وفعالة لمواجهة الكوارث الطبيعية التي لا يمكن منعها.