تحت شعار «مجازات الآثار»، يحتضن رواق غامي بالدار البيضاء مابين 29 مارس و 25 أبريل 2019 معرضا تشكيليا جماعيا للفنانين المبدعين المعاصرين يوسف لبدك و عبدالرحمن الحناوي وأحمد بويدي. معرض يقدم جديد هذه الصفوة الجمالية التي تشتغل على الأثار بأسلوب بصري حداثي يجمع بين الواقعية الرمزية والتجريدية التعبيرية. يوسف لبدك : الجميل هو الغريب يعد الفنان التشكيلي يوسف لبدك (مواليد 1983 بخريبكة) من الأسماء الإبداعية الصاعدة التي لا تحتاج إلى تقديم. فهو عضو بالنادي الفني كاليفورنيا بأمريكا، وحاصل على الميدالية الشرفية للمؤسسة الأكاديمية «فنون، علوم وآداب»، كما توج مساره الإبداعي بجائزة الاستحقاق في إطار الدورة الثانية للمعرض الدولي «الأيادي التي تبصر» التي أقامتها جمعية «إبداع وتواصل» شهر دجنبر 2015 تكريما للفنان عبد الكريم الغطاس بشراكة مع وزارة الثقافة، والمدرسة العليا للفنون الجميلة بالدار البيضاء، وجمعية الفكر التشكيلي والمؤسسة الأكاديمية العالمية للفن بفرنسا. كما أن لوحاته الفنية تؤثث الفضاء البصري لأغلفة منشورات أمنية للتواصل والإبداع. يوسف لبدك، أيضا، خريج المدرسة التقنية للفنون المطبقة بالدار البيضاء، ومن البارعين في الفن الموسيقي، والديزاين الغرافيكي، إلى جانب كتابة السيناريو والخواطر الشعرية. في لوحاته الفنية ، يدرك المشاهد أنه إزاء سلسلة متواصلة من الشطحات باللون والشكل. فهي عبارة عن سفر إبداعي ملحمي في جسد الألوان والأشكال عبر تقنية الصباغة بكل مصادفاتها وخلاصاتها التركيبية. فهو يولي أهمية خاصة للتشذير والاختزال، موظفا في ذلك عدة وحدات بصرية شبه تشخيصية تفصح عن مدى افتتانه بجمالية البصمة والأثر فوق السند/ القماش. رسم كل أعماله الفنية بحيوية وتلقائية، سواء التي انطبعت بالقصبات الجنوبية، أو تلك التي انشغلت بالأشجار والشطحات الروحية والمواد التركيبية. في عمله الفني الحر والمنطلق كطائر يشدو، أستحضر دائما قولة الفنان فرانسيس بيكون : «عندما أراك الآن لا أرى خطوط وجهك فقط، بل أشاهد إشعاعات وإيحاءات وانبعاثات، وهذا ما أحاول أن أضعه في لوحاتي. إني أريد أن أصل الغموض، أما طبيعة المظهر، فهذا دور الكاميرا». اللوحة بالنسبة إليه كالمقطوعة الموسيقية. فهي بمثابة ذريعة « Prétexte » لإدماج الانطباعات اللونية والشكلية داخل جسد السند. يشتغل على الرسم المصور والتصوير الموسوم بصيغة إيجازية وبليغة. الأمر شبيه بشاعرية فياضة تزيدها الخطوط المناسبة والأشكال المتموجة بعدا تجريديا ذا تعبيرية قصوى. كل عمل فني يشهد على هذا التحول النوعي المعزز بدراسة معمقة للتقنية الصباغية المستعملة بخبرة ودراية. الواضح في الفضاء البصري لأعماله التصويرية هذه الضربات اللونية السريعة التي تخترق البياضات، وتتوزع بحرية وتدفق على أبعاد السند، كاشفة عن حسه الوجداني، ومشكلة امتدادا لجسده وروحه معا. لعمري، هذا ما يفسر جليا إيقاعات ألوانه، وحركات فرشاته وتجنيحاتها، وتشظياتها التعبيرية. الجميل من منظور يوسف لبدك الفني هو الغريب . فهو من أنصار الغروتيسك وهي عبارة أطلقت منذ عصر النهضة على الرسومات العجائبية والغرائبية. يحاول أن يضفي هذا البعد اللامألوف على عالمه الجمالي، مدركا بأن الإبداع الحقيقي هو الذي يقارب جوهر الأشياء والكائنات خارج كل المعالم المقلوبة والخاضعة للعبة التنكر والتصنع في عالمنا الموسوم بطغيان النسخ ونسخ النسخ والاستلاب (السيمولاكر). إن أعماله الإبداعية تؤكد بأن الفن التشكيلي منذ الرومانسية وبعدها الانطباعية يسعى إلى القبض على الحقائق الهاربة بحثا عن الانطباعات والتعبيرات اللحظوية. هذا ما يشكل وعيه البصري في عصرنا الراهن القائم على تسويق الصور وفبركتها رغم خيانتها للأصل والحقيقة. لقد سبق للناقد التشكيلي كلايف بل بأن أكد بأن الفن ذو أهمية قصوى من الوجهة الأخلاقية والجمالية معا. فكل لحظات الإبداع شبيهة بلحظات الحياة لذلك يحاول يوسف لبدك أن يحشد «أكبر قدر من النبضات» في لوحاته التعبيرية. هنا تكمن الحيوية الفنية للفن التي سبق للمفكر الجمالي أوسكار وايلد أن اعتبرها حقيقة عليا وضربا من الخيال المجسم. ليس همه الأول والأخير هو إصدار حكم على واقع مشهدي معين، بل محاولة التعبير عن تجربته التفاعلية مع الوحدات المجردة بطريقة موحية، ومؤثرة وصادقة. إن الفيض التعبيري عموما لا يتقيد بحكم طبيعته اللامرئية بما هو مألوف أو متواضع عليه، فهو يستفز بصيرتنا ويثير جرأتنا، فاسحا المجال لرغبات تحررنا وانطلاقنا لا لنزعات جمودنا ورتابتنا. الأشكال من منظوره أنغام بصرية يجب أن ندرك إيحاءاتها البليغة بالعين. عبدالرحمان الحناوي: جينيالوجيا الكائن لا يمكن مقاربة المشهد التشكيلي الغرائبي بالمغرب دون استحضار اسم الفنان المبدع العصامي عبدالرحمان الحناوي(مواليد 1964 بالدار البيضاء)، حيث استطاع منذ عام 1978 (معرضه الفردي بالمسرح البلدي) أن يقدم عدة سجلات إبداعية تسافر بالرائين في عدة مدارات بصرية تزاوج بين عوالم الفن الواقعي، والفن الطبيعي، والفن الكلاسيكي في ضوء معالجة تقنية عالمة تخبر أسرار الصباغة الزيتية وتفاعلاتها الكيميائية. بحسه المنفرد وموهبته الطبيعية المبكرة، أجاد في إعداد وإنجاز عدة رسومات تمهيدية تعيد إنتاج ما وقر في مخيلته البصرية وترسخ من روائع الإبداع التشكيلي العالمي على آثار ميكايل أونجلو، ودورير، وبوسان، ولاكارافاج، وماني وغيرهم من أساطين الإبداع التشكيلي الكلاسيكي والحديث معا. كانت البداية الفنية مبكرة كذلك حال حلقة تتويج المسار الإبداعي، إذ مازال الفنان عبدالرحمان الحناوي يستحضر، بفخر واعتزاز، حصوله على الجائزة الأولى برسم تظاهرة صالون الخريف التي بادر إلى تنظيمها المركز الثقافي الفرنسي عام 1987 : سنة تاريخية في مسار هذا الفنان الإبداعي، لأنها توثق لأول انعطاف نوعي من مجال الفن الواقعي الكلاسيكي إلى مجال الفن الغرائبي بكل حمولاته العجائبية والسحرية. هكذا، سيتداعى شريط هذا المنزع الفني ذي البعد السوريالي وسيتواصل بشكل ممنهج ومسترسل، إذ سيعرض عام 2005 برواق مكتبة بلدية بإيطاليا باكورة هذه التجربة الفنية الاستثنائية والمنفردة التي تنهل من معين الأعراف الشعبية، والأساطير الجمعية، والطقوس الرمزية التي تعبر عن ميثاق علائقي خاص بين الكائنات والأشياء في ضوء علاقاتها المركبة مع قضايا الزمن، والواقع، والحياة، والموت، والسلطة، والحاضر، والمستقبل. في هذا السياق الأسلوبي، يصرح الفنان عبدالرحمان الحناوي: «أحاول في أعمالي الفنية الغرائبية معالجة قضية الكائن الإنساني، كاشفا عن شروط هشاشته الذاتية والموضوعية، طالقا العنان للخيال الحر الذي يعتبر ملكة تعبيرية جديرة بسبر أغوار الإنسانية، وعرض تناقضاتها الوجودية. فأنا من أنصار حرية التعبير باعتبارها معادلا رمزيا لحرية الوجود. إن ما يثير مخيلتي الفردية وانشغالاتي الفكرية والجمالية معا هو واقع الإنسانية ومصيرها المجهول». انفردت عوالم عبدالرحمان الحناويالمشهدية بفيض متخيلها الإبداعي الذي يجرد الكائن من مقومات هويته الجغرافية والاثنوغرافية، إذ يتحول إلى مجرد حالات وجودية مشحونة بكل الإيحاءات والقيم الهجينة. كل لوحة بمثابة ظلال وأصداء تؤثث المشهد العام (أتذكر لوحة أحداث 11 شتنبر المأساوية التي تترجم صدمة الحضارات) في إطار من المحاكاة الساخرة التي تسبح ضد تيار الواقعية التعبيرية، وكأن به يطرح هذه الأسئلة الإشكالية : كيف يمكن أن نعبر عن الحس الجمالي في زمن اللامعقول الذي نعيشه، وأمام عناء الواقع وتناقضاته ؟ أليس الإبداع المعاصر نوعا من «الخيانة للكائن وكيانه الحقيقي» ؟. هاهنا، يصبح التشكيل زحزحة « déplacement » بتعبير المفكر جيل دولوز. اللوحة، في هذا الباب، سلسلة من المشاهد والبنيات الغربية القائمة على مبدإ الخلخلة والتفكيك والتجريد احتفاء بقوى محركة وسلطات رمزية منفتحة على الممكنات والصيرورات. يتحدد، إذن، العمل التشكيلي لدى عبدالرحمان الحناويكمدخل عام ل «جينيالوجيا الكائن» (أتذكر «جينالوجيا الأخلاق» للفيلسوف نيتشه)، إذ ينكشف لنا أصل آخر للإنسان بعيدا عن ملحقات الواقع الإشهاري والنمط الاقتصادي : الفنان يعري الكائن الذي تحول إلى مجرد أرقام وماركات في ظل العبودية المعاصرة. فكائنات عبدالرحمان الحناويمجردة من كل شيء في صورة حالات بدئية قبل التكييف، والتطبيع، والاستيلاب. إنه يرسم أصل حقيقة الأشياء، ما يؤسس هويتها الطبيعية خارج معالم التاريخ والميتافيزيقا. كل لوحة تقدم تشكيليا ماهيات غريبة عنا تعمق وعينا الوجودي وإدراكنا الواقعي. لقد تفوق الفنان عبدالرحمان الحناويفي صناعة الذات التشكيلية خارج كل الأقنعة والأوهام المصطنعة، فقناعاته الحية وامتداداته التعبيرية أرضية خاصة لولوج عالمه البصري الذي حفظ على ثابت الإبداع دون السقوط في متاهة الإنتاج الذي يحمل أرقاما في سلسلات. إنه من المخلصين لوحدة الإبداع وتفرده انسجاما مع العالم الفاتن ل «التحفة» (Chef–d'œuvre). فهو يعد من الفنانين القلائل بالمغرب الذين ساهموا مساهمة لا يستهان بها في مضمار الفن الغرائبي بكل روافده ومعانيه الإيحائية (Connotations) التي تخلف انتشاء بصريا داخل اللوحة حيث تسكن الأحلام والاستيهامات. أحمد بويدي : عندما ينادينا الجسد ! تندرج تجربة الفنان التشكيلي ورئيس جمعية بصمات للفنون الجميلة أحمد بويدي ضمن مسار الحساسية الجديدة التي اختارت البحث والتجريب مسكنها الإبداعي بالمعنى العميق للكلمة. فنان عضوي وفاعل جمعوي وإطار تربوي يسكنه الفن البصري منذ نعومة طفولته وعلى مدى حياته الدراسية التي تعززت بدبلوم المدرسة العليا للفنون الجميلة بالدار البيضاء عام 1993. أحمد بويدي (مواليد 1967 بالدار البيضاء) من المسكونين بعشق الريشة واختبار المواد الصباغية وغير الصباغية على شتى الأسندة. تراه ينتقل من عالم تعبيري إلى عالم آخر بمرونة وسلاسة، منصتا لدواخله، ومنفتحا على الأساليب الجمالية والمغامرات التشكيلية العالمية. لوحاته عبارة عن شعر بصري ننصت إليه بالعين، ودرس في التأمل الجمالي الذي يقدم ذاته في شكل طقوسي أشبه باحتفالية الجميل والخام، أقصد احتفالية الدهر. ألم يقل إيميل سيوران:»أن تكون إنسانا حديثا هو أن تبحث عن عقاقير لما أفسده الدهر». تؤكد كل الملتقيات الفنية والمعارض الفردية والجماعية التي نظمها المبدع أحمد بويدي مدى تمكنه التقني ورصانته الفكرية كأحد مهندسي ثقافة القرب من الكائنات والأشياء. فهو صاحب أسئلة حارقة حول الفن والعالم والكائن والكيان. في ضوء لوحاته الجديدة، يعالج الفنان أحمد بويدي قضايا الإنسان المعاصر بالنظر إلى ذاكرته الجماعية، منخرطا في جغرافيات التواصل العالمي، ومخلصا للنداء الآتي من أعماق الكائن الباحث عن علاقات الانسجام والتوافق لا عن علاقات القوة والتنافر. كل لوحة فنية تأشيرة عبور إلى لوحة مغايرة دون اجترار أو استنساخ. فالفنان يصوغ إشراقات باللون والشكل والأثر تنضاف إلى سجلات الإبداع التجريبي والإشكالي معا: إبداع حر جدير بالمتابعة والمصاحبة فكرا ونقدا وإعلاما. لوحة أحمد بويدي تستفز مخيلتنا وتستدرجنا لسفر داخلي في عوالم الحواس والمعاني. نكاد في حضرتها البصرية نسمع نداء الجسد المجازي بصيغة الجمع، وهو يشغل الحيز الأكبر من الفضاء المشهدي. يخيل إلينا ونحن نفكك رسائل اللوحات الملغزة أن الأثر هو براديغم العمل التشكيلي برمته. كان الفيلسوف نيتشه يردد: «علينا قبل كل شيء أن نتعلم كيف نسمع حركة الأقداح». هاهنا، يحق لنا أن نردد: «علينا قبل كل شيء أن نتعلم كيف نسمع نداء الجسد». تخفي بياضات اللوحة اللامرغوب واللامفكر فيه، ويغدو امتلاؤها ذريعة كيميائية لإبراز روح الكائن وهو ينتشي بكينونته، أي بحريته في شرطها الوجودي بدون تظاهر أو أقنعة. أليست رغبة الفن هي البقاء على قيد الحياة، في الاستمرار في الحياة، في حياة بعد الحياة، في عودة إلى الحياة. هذا هو البيان البصري المستخلص من تجربة أحمد بويدي. بيان: يذكر المهووسين بالجمال الخفي بقول الشاعر إلويار: «رغبة مستبدة في النسيان» (le dur désir de durer). ننظر إلى الجسد في لوحة أحمد بويدي وكأننا نتعلم النظر ابتداء من الصفر… كأننا نبصر لأول مرة… كأنه يدعونا لكي ننسى حياتنا القديمة ونتكيف مع حياتنا الجديدة. أليس النسيان ذاكرة جديدة، ذاكرة مضاعفة ومفرطة؟ حقا إن أحمد بويدي صاحب مشروع جمالي وتعبيري خام (Projet) بمعانيه الثلاثة: الزماني/الاستباقي، المكاني/ الإسقاطي (Projection) والبصري/ التصويري (Optique). هكذا جمع الفنان عبر تقنيته المختلطة، بين منطق الذات ومنطق التشكيل، ومنطق المعنى. فأجساد أحمد بويدي تبحث عن المسافة والمساحة والفرق (Dégagement) دون الاكتراث بالالتزام أو عدمه (Engagement ou désengagement). اقتداء بقول الأديب الفرنسي الكبير غوستاف فلوبير القاضي بأن البلادة هي البحث عن الخاتمة، فإني سأحتفظ بالمسافة المذكورة، تاركا أجساد أحمد بويدي في اللوحة تنادينا، كما تنادينا في مجتمع الفرجة الذي يتخذ عدة أشكال لإنتاج اللامعنى واللافكر. هذه الأجساد الرمزية هي التي جعلت من لوحة هذا الفنان المجرب مختبرا مفتوحا على العديد من الاحتمالات والكشوفات. كتب شيلدر في مؤلفه «صورة الجسد» : «إن صورة الجسد الإنساني، هي صورة جسدنا الخاص التي نشكلها في فكرنا وثقافتنا». هذا هو رهان أحمد بويدي وهو يخوض متاهة السفر الدائم في ذاكرة المادة والسند والفضاء، مؤسسا بذلك لفن طلائعي في مواجهة ثقافة الكيتش أو ما هو خلف طليعي (Arrière garde ou kitsch) بتعبير الناقد الأمريكي كليمان غرنبرغ.