تقضي الخطة الأميركية لتسوية القضية الفلسطينية في ما تزعم الإدارة الأميركية أنها ل”ترسيخ السلام في الشرق الأوسط”، والمعروفة إعلاميا ب”صفقة القرن”، بإقامة دولة فلسطينية على 90% من أراضي الضفة الغربيةالمحتلة، على أن تشكل أجزاء من القدس الشرقية عاصمة الدولة الفلسطينية، في حين تخضع البلدة القديمة في المدينة، حيث يقع المسجد الأقصى المبارك وسائر الأماكن المقدسة، تحت سيطرة الاحتلال. وإدارة ترامب تبنت نهج تفاوضي مخالف للإدارات الأمريكية السابقة، والتي كانت تُشرك الإسرائيليين والفلسطينيين في المفاوضات، وتضع الخطوط العريضة، وتترك لطرفي الصراع أن يقرروا ويتفقوا حول التفاصيل، هذا النهج التفاوضي الجديد لإدارة ترامب قائم على ركيزتين أساسيين: الأول: السلام “الخارجي” , أي إدارة مفاوضات مع الدول العربية وتطبيع العلاقة مع إسرائيل، تحت بند مواجهة "المخاطر الاقليمية "، وعلى أمل أن تمارس الدول العربية نفوذها على الفلسطينيين من أجل دفع السلام في الشرق الأوسط. الثاني: سياسة الإكراه وإجبار الفلسطينيين على القبول، من خلال تشكيل و رسم سياسة الامر الواقع على الأرض، في موضوع القدس، واللاجئين، والمستوطنات، وإجراءات عقابية كتخفيض المساعدات، واغلاق المكاتب الدبلوماسية، ووفقاً لهذه السياسة فإن الإدارة الأمريكية لم تَكُن تُراهن على النجاح في تحقيق تسوية، فقد حققت أهدافها بالفعل على أرض الواقع، ولم يعد هناك شيء لعرضه أو التفاوض عليه مع الفلسطينيين. ان النهج التفاوضي الجديد للإدارة الأمريكية ساهم في تعزيز الطريق المسدود في العلاقات الإسرائيلية الفلسطينية، وعزز حالة من الجمود, و كان لهذه الخطوات تأثير سلبي على قدرة الولاياتالمتحدة على قيادة عملية سياسية ناجحة. بالتزامن مع عدم اليقين بشأن وضع الولاياتالمتحدة في الساحة الدولية، وقدرتها على فرض رؤيتها في العديد من القضايا على المسرح العالمي، حيث لم تتمكن واشنطن من خلق حالة من الإجماع الدولي على خطة “ترامب للسلام”, وبدت مواقف القوى الدولية معارضة اكثر منها مؤيدة، بما يدفع واشنطن لتنفيذ الخطة بشكل أحادي دون الحصول على الحد الأدنى من الإجماع الدولي. في الوقت الذي تحولت فيه “إسرائيل” وبشكل تدريجي من “مشكلة” إلى “جزء رئيسي” من الحل للمشاكل و التهديدات “المفبركة و امريكية الصنع” التي تعترض المنطقة، و ادى ذلك في ارتفاع منسوب العلاقات العربية الإسرائيلية، مقابل إقصاء القضية الفلسطينية إلى قاع سلم الأولويات العربية. و من نافل القول, لا يمكن لاحد تقديم الدعم لاية خطّة سياسيّة، بما فيها” صفقة القرن” إذا كانت قريبة من موقف إسرائيل وبعيدة عن موقف الفلسطينيّين, باعتبار ان “صفقة القرن” : لم تتصل مع قرارات الشرعية الدولية و لا تهدف الى ايجاد تسوية للنزاع الفلسطيني الاسرائيلي, و هذا ما يعزز فشل سياسة واشنطن القائمة على جلب السلام من “الخارج” . وفي المحصلة لن تتمكن الإدارة الامريكية و هي تسعى بخطى حثيثة , من العثور على جهات دعم تتعامل مع مخرجات “صفقة القرن”، بالتوازي مع فشلها في تشّكيل مظلة إقليمية و دولية تدعم مخططها وتقنع الطرف الفلسطيني بالتعاطي مع الصفقة. في السياق ذاته, نجد ان الحكومة الإسرائيلية اليمينية و المتطرفة تدرك أنه لا يمكن التوصل إلى تسوية شاملة مع الفلسطينيين في هذه المرحلة، لأسباب متعددة منها: غياب قيادة فلسطينية موحدة قادرة على التوصل إلى اتفاقيات وتطبيقها؛ مع استنادها إلى ائتلاف يميني يعارض أية اتفاقية تشترط حل الدولتين , وانعكس ذلك في تراجع حاد في الرغبة الإسرائيلية “للسلام” ، سواء على المستوى الشعبي أو على المستوى السياسي، شعبياً: أظهر استطلاع رأي أجرته جامعة تل أبيب في اغسطس الماضي أن 9% فقط من الإسرائيليين يريدون من حكومتهم إعطاء الأولوية للتوصل إلى اتفاق سلام مع الفلسطينيين في عام 2019، وجاءت تصريحات المستوى السياسي ما بين نتنياهو: “خطة ترامب للسلام ليست ضرورة ملحة”، ووزيرة العدل: “بأن الخطة مضيعة للوقت”. لذلك تتموضع الحكومة الإسرائيلية في الوقت الراهن في الحيّز المريح المسمّى “وضعاً قائماً”، وهو حيّز لا يستوجب اتخاذ قرارات صعبة بل مواصلة إدارة الصراع مع الفلسطينيين، باعتباره ساحة ثانوية مقارنة بالتهديدات الاخرى. استنادا على ما سبق, لن تنجح الإدارة الأمريكية في قيادة عملية سياسية ناجحة، تُمكّنها من إرساء حالة دائمة من السلام والاستقرار، نتيجة مجموعة مركبة من التَّحديات، كما أنّ التطبيق الأحادي “لصفقة القرن” يترك تداعياته السلبية والخطيرة على الفاعلين الرئيسيين. و هذا ما سلط الضوء عليه الباحث الامريكي فيليب جوردون في تقريره الذي يحمل عنوان «إعادة التفكير في السياسة الأمريكية تجاه الفلسطينيين» ، وهو خبير في قضايا المنطقة، وعمل مساعداً خاصاً للرئيس السابق باراك أوباما، ومنسقاً لشؤون الشرق الأوسط بالبيت الأبيض من2013 إلى 2015, الا صفعة سياسية و انتقادا لاذعا على السياسة الخارجية لادارة ترامب : يستهل الباحث تقريره بعرض مفصل للإجراءات العقابية التي اتخذتها إدارة ترامب ضد الفلسطينيين، منذ أن دشنت توجهها الجديد نحوهم أواخر 2017، وهو التوجه الذي قلب رأساً على عقب ثوابت السياسة الأمريكية في المنطقة. حيث لم تفرق العقوبات الأمريكية بين الشعب وقياداته، فشملت قطع كل أشكال المعونة المالية بما فيها تمويل وكالة الأونروا لغوث وتشغيل اللاجئين. ولم تسلم المستشفيات من العقوبات، فتم تجفيف منابع تمويلها. وايضا تبنت الإدارة كل المواقف الإسرائيلية إزاء قضايا الوضع النهائي، وامتنعت عن إدانة الاستيطان, وتماهت مع سياسات الليكود المتطرفة، بل زايدت عليها بحرمان الشرطة الفلسطينية من المساعدات خلافاً لنصائح “الإسرائيليين” الذين يخشون أن يؤدي ذلك إلى تسهيل شن هجمات مسلحة عليهم, ثم كان القرار المجحف بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأمريكية إليها، وبعدها تم إغلاق مكتب منظمة التحرير في واشنطن. . ويرفض التقرير المذكور المبررات التي ساقتها الإدارة الامريكية، وهي أن الضغط على الفلسطينيين سيدفعهم إلى مواقف أكثر اعتدالاً، وتقديم تنازلات لتحقيق السلام؛ إذ جاءت النتيجة عكسية فلم يرضخ الفلسطينيون، ولم يتحقق السلام، ولن يتحقق. ويبدي التقرير دهشته أيضاً من حسابات الإدارة الامريكية الخاطئة، فأي متابع مبتدئ كان يدرك: “أن قطع المساعدات بما يترتب عليه من معاناة سيؤجج المشاعر المعادية للولايات المتحدة بين الفلسطينيين، ويدعم العناصر المتشددة، ويشجع اللجوء إلى العنف، لاسيما مع إضعاف الشرطة الفلسطينية. وهذا ليس في صالح “إسرائيل” ولا أمريكا , كما أن تقويض حل الدولتين لا يضمن بقاء إسرائيل كدولة ديمقراطية يهودية خالصة”, وفقا لما جاء في تقريره. ان الأسوأ من وجهة نظر الكاتب “أن استمرار معاناة الفلسطينيين قد يؤدي إلى انفجار شامل، وانفلات أمني، وبالتالي تهديد أمن “اسرائيل”. وينتهي التقرير بإصدار أربع توصيات رئيسية، الأولى: أن يوقف ترامب مساعيه لتطبيق ما يعرف “بصفقة القرن”؛ لأن الظروف الحالية لا تضمن لها أي فرصة للنجاح, كما أن الحكومة الإسرائيلية لا تؤمن بحل الدولتين. التوصية الثانية: هي استئناف تقديم المساعدات للفلسطينيين بنفس المستويات التي كانت عليها قبل ميزانية 2017، مع الإقرار بأن قطعها لم يجبرهم على الإذعان للمطالب الأمريكية. ولا يوجد ما يشير إلى أن إذعانهم سيحدث مستقبلاً باستخدام سلاح المساعدات. التوصية الثالثة: هي إعلان واشنطن أن قيام دولة فلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية هو هدف أمريكي رئيسي لتشجيع الفلسطينيين على التفاوض والتوازن مع قرار الاعتراف بالقدس عاصمة ل “إسرائيل”. التوصية الأخيرة: هي التدخل لدى “إسرائيل” لتقييد النشاط الاستيطاني، وتخفيف القيود على حركة الفلسطينيين، وتطوير مؤسساتهم الاقتصادية. أخيراً، يلخص الكاتب رؤيته في كلمات محددة، وهي أن “توجهات ترامب لن تسفر عن تحسين الأوضاع بالمنطقة بل ستزيدها تدهوراً. وأن إدارته لن تستطيع حل الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني، وبالتالي عليها ألا تزيده اشتعالاً “, هذا الاشتعال الذي تأجج اخيرا في تقرير الادارة الأمريكية والذي نفت فيه “صفة الارض المحتلة” عن الاراضي الفلسطينية والجولان السوري المحتلين، ما هو الا استخفاف سافر و بلا حدود بالقانون الدولي و قرارات الشرعية الدولية, ومشاعر الشعبين الفلسطيني والسوري¸ وانحياز أعمى للمشروع الصهيوني الاستيطاني – التهويدي للأراضي الفلسطينية والجولان السوري المحتل. ان اسقاط مصطلح (مُحتلة), ليس مجرد تغيير في المصطلحات، وإنما تغيير في السياسات الخارجية للإدارة الأمريكية ذات الصلة بالقضية الفلسطينية، يضاف إلى العديد من القرارات التي ذكرناها سابقا و المجحفة بحق القضية الوطنية الفلسطينية, والتي تحاول فيها الادارة الامريكية ان تضفي “شرعنة سياسية” للخطوات العملية والاجراءات الميدانية للاحتلال الاسرائيلي و سياساته الاستيطانية والتهويدية للضفة الفلسطينية والجولان السوري المحتلين, – سياسة الامر الواقع في تطبيقات “صفقة القرن”- نرى ان الادارة الامريكية هي اللاعب الدولي الوحيد الذي يفتعل ” معارك سياسية واعلامية” خارج القانون الدولي و قرارات الشرعية الدولية ضمن مفهوم قانون “الغاب الامريكي”. وما القرار الاخير, الا رسالة “استخفاف” سياسية بحق الهيئات الدولية و قراراتها وامينها العام, وهو المعني اولا بالرد على القرارات الأمريكية لإعادة الاعتبار والمكانة الدولية لهيئة الاممالمتحدة و قراراتها ولشخصه ايضا, وأن يتحمل مسؤولياته القانونية والاخلاقية واصدار ما يلزم من بيانات وتوضيحات تعيد التأكيد على الحالة السياسية والقانونية للأراضي الفلسطينية والسورية المحتلة ووضع حد للعبث السياسي الامريكي وخطواته العدوانية. لذلك, لا تكفي بيانات الشجب والادانة والاستنكار من قبل السلطة الرسمية الفلسطينية للسياسة الأمريكية, وانما باتخاذ الخطوات العملية والميدانية, في التصدي للسياسة الهجومية للتحالف الامريكي – الاسرائيلي: بإنهاء الانقسام و استعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية والعمل على تطبيق قرارات المجلسين الوطني و المركزي وطي صفحة اوسلو والتصدي للخطوات العملية” لصفقة ترامب” و ما يسمى “بالسلام الاقتصادي”. ان السياسة الانتظارية للفعل الرسمي الفلسطيني ستفتح الباب امام المحاولات السياسية لتكريس الخطوات العدوانية – الاسرائيلية امرا واقعا على حساب القضية الوطنية و حقوق شعبنا المشروعة.