لم يؤخذ بالرأي الداعي إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية، لمرحلة إنتقالية، تعمل على تنظيم إنتخابات شاملة تفتح الباب، وعلى أسس ديمقراطية، لإنهاء الإنقسام، وإعادة بناء المؤسسة الوطنية، وتكريس الإئتلاف الوطني والشراكة الوطنية، وتوحيد القوى كافة تحت راية م.ت.ف، وتعزيز موقعها السياسي والتمثيلي، قائدة لنضال الشعب الفلسطيني، وممثلاً شرعياً ووحيداً له.وصدر، بدلاً من ذلك، قرار بتكليف الدكتور محمد اشتيه بتشكيل حكومة جديدة تخلف حكومة سلفه الدكتور رامي الحمدالله. ورد اشتية على كتاب التكليف، الذي وقعه رئيس السلطة الفلسطينية، بكتاب حمل سلسلة كبرى من التعهدات السياسية والإجتماعية، والإقتصادية، والمالية والأمنية وغيرها، ليس على صعيد مناطق السلطة فقط، بل وبما يطال مناطق اللجوء والشتات والمنافي، وكأن ولاية هذه الحكومة سوف تمتد إلى كل مكان يتواجد فيه الفلسطينيون.وليس خافياً، أن الحكومة القادمة، التي وعد اشتيه بتشكيلها خلال 3 أسابيع، ستولد في سياقات سياسية، شديدة التعقيد. فهناك من جهة حالة الإنقسام بين فتح وحماس، ما أدى إلى ولادة سلطتين، تتنازعان النفوذ، وتسلك كل منهما سياسة في مواجهة الأخرى، هدفها تغليب مبادئ الصراع على مبادئ التفاهم؛ وتغليب سياسة التباعد على سياسة التقارب، بكل ما يتخلل هذه السياسات من إنزلاقات خطيرة، تعكس نفسها على الحالة الوطنية بالمزيد من التدمير، وفتح الأبواب أمام تعميق حالة الإنفصال، وزرع المزيد من العوائق أمام إنهاء الإنقسام. وهناك، من جهة أخرى، الأوضاع القلقة داخل م.ت.ف، إنعكست سلباً على العلاقات بين فصائلها، بسبب من سياسة التفرد والإستفراد، التي تتبعها القيادة الرسمية، بما في ذلك تعطيل قرارات المجلسين الوطني والمركزي، وإلغاء صف من دوائر م.ت.ف، وإحالتها إلى وزارات السلطة، ما أدى إلى إضعاف دور المنظمة، دون أن يطور دور السلطة؛ والإستفراد بقرارات الصندوق القومي، وتهميش دور اللجنة التنفيذية، وحل القضايا بالمراسيم الرئاسية، على حساب قيم التوافق والشراكة الوطنية. وهناك، من جهة ثالثة، تغول السياسات الإسرائيلية، ليس فقط على صعيد الإستيطان والتهويد، بل وفي الجوانب الأمنية، والإقتصادية والمالية، ما أدى إلى تقليص ولاية ومساحة السلطة الفلسطينية، ووضع الحالة الفلسطينية أمام سياسة هجومية، لسلطات الإحتلال، تتوغل، يوماً بعد يوم، في زرع الأسس من جهة، والعوائق من جهة أخرى، ما يعزز المشروع الصهيوني، ويعيق قيام المشروع الوطني. وهناك (أخيراً وليس آخراً) التحضيرات الأميركية الميدانية، لإطلاق «صفقة ترامب»، بعد أن حققت بإعتراف صائب عريقات أمين سر اللجنة التنفيذية 70% منها ميدانياً، حتى قبل الإعلان عنها. * * * هذه الصورة المعقدة للسياق السياسي الذي في إطاره صدر قرار تشكيل حكومة برئاسة اشتيه، تؤكد مدى خطورة هذه الخطوة لإنفرادها، ورفضها الأخذ بالإعتبار رأي الصف العريض من القوى والفعاليات السياسية الوازنة في المجتمع الفلسطيني.ومع ذلك، فإن هذا الإنفراد، لن يعفي الحكومة القادمة من ضرورة تحمل مسؤولياتها السياسية والأمنية والإقتصادية والإجتماعية وغيرها. فحتى في ظل غياب مجلس تشريعي، وظيفته أن يسائلها عن أدائها، فإنها لن تنجو من مساءلة القوى والفعاليات السياسية والمجتمعية، كما جرت، على سبيل المثال، مساءلة من سبقتها، خاصة في قضايا الشأن الإجتماعي، كحقوق الموظفين العموميين، وملف قانون الضمان الإجتماعي، وباقي الملفات السياسية. وهذا يعني، باللغة العملية، أن الحكومة القادمة، ستكون معنية بمعالجة الملفات الكبرى التالية:1) الملف السياسي، وهو المدخل الواسع إلى باقي الملفات، وعلى قاعدة الإستراتيجية السياسية التي ستتبعها الحكومة ستبنى الخطوات الأخرى. ما يضع الحكومة أمام خيارين: الأول أن تواصل إلتزامها بإتفاق أوسلو وبروتوكول باريس. وبالتالي تواصل السياسات التي إتبعتها الحكومة السابقة في العلاقة مع الإحتلال. أم تلتزم قرارات المجلسين الوطني والمركزي، والتي قررت طي أوسلو، وسحب الإعتراف بدولة إسرائيل، ووقف التنسيق الأمني مع سلطات الإحتلال، وفك الإرتباط بالإقتصاد الإسرائيلي. مع العلم أن اشتيه شارك في أكثر من لجنة من أجل وضع آليات وجداول زمنية لتنفيذ القرارات المذكورة. وهو صاحب الإقتراح الشهير (إلى جانب قرارات أخرى) وقف التعامل بالشيكل الإسرائيلي، بكل ما يرتبط مع هذا القرار من سياسات إقتصادية، تقود إلى إلغاء بروتوكول باريس. ومما لاشك فيه أن إقتراحات اشتيه باتت الآن مطروحة عليه، من موقعه كرئيس للحكومة، وهذا من شأنه أن يضع حكومته أمام الإمتحان.2) الملف المالي (وفي السياق الإقتصادي والإجتماعي) بحيث توفر للموظفين والمتقاعدين والمشمولين بالرعاية الإجتماعية، وعائلات الأسرى والشهداء وغيرهم، حقوقهم المالية كاملة. صحيح أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان (كما ورد في كتاب اشتيه إلى رئيس السلطة) لكن الصحيح أيضاً أن الإنسان لا يعتاش لا على البيانات ولا على الوعود، ولا على الخطب. بل في مقدمة ما يحتاجه هو الخبز وهذا من أهم أولويات واجبات الحكومة. هل تواصل سياساتها النيوليبرالية، والنزول عند وصفات صندوق النقد الدولي، أم أنها ستختط لنفسها سياسة خدمية، من شأنها أن تعزز صمود الشارع الفلسطيني في معركته الوطنية ضد الإحتلال والإستيطان والحصار. * * * مع الحكومة الجديدة، ستدخل الحالة الفلسطينية إستحقاقات كبيرة، من أهمها النتائج التي ستسفر عنها الإنتخابات الإسرائيلية، وتشكيل حكومة جديدة لدولة الإحتلال تنبئ مقدماتها أنها، أياً كان شكلها، ستتخذ موقفاً شديد السلبية من مسألة قيام دولة فلسطينية، من باقي الملفات كالقدس والإستيطان وغيرها. ومن أهمها أيضاً الكشف عن صفقة ترامب، التي ما سرب منها يؤكد أنها لا تتجاوز حدود «السلام الإقتصادي» كما يقترحه، ويعمل لأجله، نتنياهو. ما يعني أن حالة الغليان سوف تتصاعد في المناطق المحتلة وفي عموم الحالة الفلسطينية، الأمر الذي سيضع الحكومة الجديدة أمام وقائع شديدة التعقيد، داخلية ووطنية، وعلى صعيد المعركة مع الإحتلال، وكذلك على الصعيد الإقليمي، حيث سيكون لمواقف الأطراف العربية من «صفقة ترامب» أثره الواضح على الحالة الفلسطينية.هذا ما يجب على الحكومة الجديدة ورئيسها أن تأخذه بالإعتبار. بل وهذا ما كان يجب أخذه بالإعتبار قبل الذهاب، في خطوة إنفرادية، نحو حكومة «فصائلية» محدودة التمثيل.