ثمة بُعد مفقود في قضية الهجرة من العالم العربي إلى الغرب. الهجرة، طوعية كانت أم قسرية، هي عملية انتقال عبر الجغرافيا إلى موقع، أو بلد جديد. يحمل الإنسان نفسه أو عائلته ويذهب بعيدا عن بلده، فيجد عالما غريبا ينتظره. قد يكون هذا العالم سهلا وبسيطا، لكن من الوارد أن يكون صعبا ومنفرا. في كل الأحوال، يحتاج المهاجر أن يتأقلم مع الواقع الجديد. هل هذا ما يحدث لمهاجرنا العربي نحو الغرب؟ كان الأمر كذلك لبعض الوقت. أجيال من الستينات والسبعينات اختارت الهجرة الطوعية، عموما لأسباب اقتصادية أكثر منها سياسية. يمكن القول إنهم الأكثر تأقلما مع واقع العيش في الغرب. استقروا بما أتوا به من مال وذكريات في مجتمعات لها منظومات قيم مختلفة، لكنها كانت أفضل بالنسبة لهم. ليس بالمطلق، باعتبار أنها غربية ونحن شرقيون، لكنها بدت أفضل للمهاجر الذي اختار بين الشرق والغرب وحسم أمره باختيار ما يراه الأفضل. حسم أمره لنفسه ولأبنائه. جيل الثمانينات من المهاجرين شكّل مرحلة فاصلة بين المتأقلمين والنافرين. تراكمت مشاكل الشرق فقررت أعداد متزايدة أن تترك البلد والأهل بحثا عن حياة تحفظ الأمن والكرامة. تستطيع أن تشخص الجهد الأكبر الذي بذله جيل الثمانينات لكي يتأقلم. ثمة حياة خارج البيت قائمة على أساس العمل، وحياة أخرى داخل البيت تحاول أن تحاكي ما تمّ تركه من عادات وذكريات. تلمس هذا في أبنائهم الذين صاروا هجينا لغويا وسلوكيا بين الشرق والغرب. حبل الوصل النفسي لم ينقطع، لكنه ليس متينا بما يكفي للانجذاب التامّ نحو الوطن. أجيال التسعينات وما بعدها تصرفت في المهجر بواقع أنها مطرودة من بلدها ومهجّرة. المعونة الاجتماعية قبل العمل، أخبار البلد قبل فهم ما يحدث في الوطن الجديد، العيش في الغيتوهات العربية والإسلامية قبل التعايش مع المجتمع بتلوناته، التمسك بالعادات والشعائر قبل إدراك ما هو مقبول وما هو مرفوض في مجتمع غربي بنسق حياة مختلف. لا يمكن لومهم فقد اقتلِعوا في أغلب الأحيان من قراهم وبلداتهم ولم يكونوا مستعدين لهذه النقلة الفارقة. وساهمت الفضائيات أولا، ومن بعدها الإنترنت في خلق وهم التواصل مع البلد الأم من خلال القصف الإعلامي اليومي للقنوات والمواقع الإخبارية. وزادت الجرعة أكثر بتوفر الشبكات الاجتماعية والهواتف الذكية بتطبيقات الاتصالات المجانية. تستطيع اليوم أن تجد عائلة عربية كل جيرانها من العرب ولم تتحدث مع غربي إلا موظف الهجرة أو مسؤول المعونة الاجتماعية، ومن خلال مترجم. حجم مفرداتها من لغة الوطن البديل لا يزيد عن بضع عشرات من الكلمات. لا تأكل إلا من منتجات تسوقها دكاكين وبقالات إسلامية. لا تعرف من الهيكل الحكومي في البلد الذي تعيش فيه إلا اسم رئيس الحكومة. لا تسمع من الأخبار إلا تلك التي تحمل المآسي من الأهل. يذهب البعض أبعد بأن يوفر من القليل الذي يأتيهم كمساعدة مالية، إما يرسلونه إلى من يحتاجه من أهل في بلد المشاكل الذي قدموا منه، أو إنهم -للمفارقة- يجمعونه استعدادا لبناء منزل أو تأسيس عمل عند العودة. الدين والشعائر هما محور حياتهم في الغرب، وليس أي شيء آخر. أولادهم في حيرة بعد أن صاروا يتحدثون لغة البلد الجديد، ولكنهم يفكرون كما يفكر آباؤهم وأمهاتهم. بدلا من الاندماج أو العمل، بالحد الأدنى، على التأقلم، نجدهم يزدادون انعزالا وتزداد المجتمعات الغربية المضيفة شكا بهم. الهجرة حقيقة تاريخية. الحركة البشرية القديمة هجرة، والفتوح الإسلامية هجرة، والحملات الصليبية هجرة، والاستعمار الغربي لدول وقارات هجرة، والاستعباد للسود في المستعمرات الزراعية هجرة. يحمل المهاجر معه ذكرياته وعاداته وينطلق، راغبا أو مجبرا، نحو المجهول. قد يصبح سيد الأرض الجديدة أو مجرد أجير فيها. قد يقتل من يجدهم أمامه من بشر أو أن تنتظره الأصفاد. لكن الهجرة بالمعطيات القديمة كانت تقوم على الاستقرار وتأسيس مجتمعات جديدة بقيم مختلفة قد تجمع الأصول والمستجدات. لكن أهم ما فيها هو الاستقرار النفسي، حتى مع ما تحمله الهجرة من كوارث شخصية. التأقلم ضرورة طالما ثمة أوجه للاختيار. ومهاجر اليوم محظوظ في بعض أوجه هجرته لأنه يذهب إلى مجتمعات تعيش بأمان نسبي وتوفر له الحد الأدنى من حاجاته ومتطلباته وتستعيد له جزءا من كرامته. هذه فرصة لبداية مختلفة، إذا لم تكن للآباء والأمهات، فللأبناء. هم زرع جديد في أرض هي غير أرضهم، ويحتاجون ألا ترفضهم الأرض أو يرفضوها. ثمة مفترق لأولادنا، خصوصا من ولد منهم في الغرب، في أن يكونوا مهاجرين أبناء مهاجرين أو مواطنين أبناء مهاجرين.