الإنتاج خارج منظومة الدعم منذ سنوات خلت، ولا نقاش في المسرح المغربي إلا عن الدعم الذي تخصصه وزارة الثقافة ضمن ما سمي بالإعانات المالية، لتشجيع المسرح المغربي بجميع أنماطه ولغاته ولهجاته الوطنية، حتى أضحى الموسم المسرحي مرتبطا به، إذ غالبا ما تعرف الساحة المسرحية حراكا يرتبط أساسا بنتائج الدعم وبمرحلة مشاهدة العروض التي حظيت ملفاتها بقبول اللجنة، لكنه ما يلبث أن يخفت تدريجيا حتى يختفي ولا يعاود الظهور مرة أخرى إلا حين يتعلق الأمر بالمستحقات وجدولتها وتأخر استيفائها. ففي الوقت الذي كان الرهان على مشروع الدعم لتشجيع المسرح المغربي والرقي بجودة منتوجه، أصبح النقاش عن نتائج الدعم أهم من المنجز نفسه. وبدل أن يتحول الدعم المسرحي إلى حافز على الإبداع ومحركا لعجلة التنمية الثقافية، تحول بفعل البيروقراطية الإدارية من جهة، وبفعل الاتكال الكلي على موارده من جهة أخرى، إلى واحد من معيقات تطور المسرح المغربي وجودة إبداعاته. أمام الحالة هذه، تعالت في السنوات الأخيرة أصوات عدة تصدح بالبحث عن صيغ أخرى للخروج من عنق الزجاجة ومن الزاوية الضيقة التي زُجَّ فيها المسرح المغربي عبر تأمين الدعم المسرحي كحق دستوري مع العمل على تجويده وتطوير آلياته، وأيضا بالبحث عن مصادر جديدة للدعم، خارج منظومة دعم وزارة الثقافة، لتسهيل عملية الإنتاج المسرحي والانتقال به إلى أفق جديد يساعد على الرقي بالممارسة المسرحية وتجويد منجزها. في هذا السياق، انتهجت العديد من الفرق المسرحية سبيل الإنتاج خارج منظومة الدعم التابعة لوزارة الثقافة، إما بشكل ذاتي أو عبر خلق شراكات عدة مع عدد من المؤسسات والهيئات الوطنية والدولية. وقد استطاعت هذه الفرق، بانفتاحها على مصادر تمويل جديدة أن تخط لنفسها مسارا مميزا بعيدا عن دواليب الدعم الرسمي لوزارة الثقافة. يمكن أن نذكر في هذا الباب عددا من الفرق كفرقة “الأكواريوم”، وفرقة “داباتياتر”، ومسرح “أنفاس”، ومسرح “تانسيفت”…. إضافة إلى فرقة مسرح “الأفق” التي تعد من أوائل فرق مسرح الهواة التي ولجت غمار الاحتراف عبر نهج سياسة الإنتاج الذاتي منذ بداية القرن الحالي، إذ استطاعت وعلى مدار ست سنوات، أن تنتج ذاتيا ست عروض مسرحية، وتشارك في ثلاث دورات من مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي (2002/ 2003/2004). إضافة إلى مهرجان الفجيرة للمونودراما بالإمارات العربية المتحدة بعرض “الناس والحجارة” للكاتب المسرحي عبد الكريم برشيد. وقد حاولت الفرقة كغيرها من الفرق المسرحية المغربية الاستفادة من الدعم المسرحي، إلا أن مشاريعها ظلت دوما خارج مفكرة لجن الدعم، كما الحال هذا الموسم مع مشروع توطين الفرقة بمسرح “للاعيشة” بالمضيق، إلا أنه لم يحظ بموافقة اللجنة على غرار مشاريع أخرى. رغم كونها تحاول استعادة ألقها الذي عرفته بداية القرن الحالي، عبر معاودة الإنتاج الذاتي الذي افتتحته الموسم الماضي بإنتاج مسرحية “بيك نيك” للكاتب الإسباني ابن مدينة مليلية المحتلة فرناندو آربال، وحملت توقيع المخرج الشاب طارق الشّاط الذي سبق ووقع العديد من الأعمال المسرحية ضمن محترف الفدان بمدينة تطوان. وفي الوقت الذي تراجعت فيه العديد من الفرق التي لم تحظ مشاريعها بقبول لجنة الدعم وارتكنت إلى الصمت، قررت فرقة مسرح الأفق إنتاج عرضها المسرحي الجديد بالاعتماد على إمكانياتها الذاتية دون التنازل عن خياراتها الجمالية أو تقليص طاقمها الفني الذي أثثت به وثائق ملفها. ضرورة انفتاح الفرقة المسرحية على تعاقدات خارج المألوف غير أن ما يميز فرقة مسرح الأفق وعبر مسار تجربتها الطويلة، كونها من الفرق المسرحية الأوائل التي انفتحت على مبدعين خارج أسوار مدينة تطوان، فقد سبق لها أن انفتحت في أول موسم لها على الأستاذ “إدريس المامون” مترجما، والمرحوم “امحمد مكروم الطالبي” معدا دراماتورجيا، والممثلة القديرة “كريمة شموط” التي افتقدها المسرح المغربي بعد قرار هجرتها إلى الديار الإسبانية. وانسجاما مع خياراتها هذه، عادت فرقة مسرح الأفق هذه السنة لتنفتح على خريجي المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي، خاصة على تجربة المخرج علي البوهالي الذي سبق ووقع العديد من الأعمال مع عدد من الفرقة المسرحية المغربية. لكنه هذه السنة عاد بمشروع حاول أن يصب فيه تصوراته عن المسرح الذي يراه ويحاول التبشير به في الكثير من النقاشات واللقاءات التي يحضرها أو يساهم فيها. ومعروف عن المخرجين الشباب من خريجي المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي (إيزاداك) الذين تتلمذوا على يد المخرج المسرحي مسعود بوحسين وتشبعوا بتجربته، أنهم يرتكنون في تصورهم المسرحي على محاولة الإجابة على أسئلة من قبيل: ما المسرح الذي نريده؟ ما السبيل إلى إنتاج عرض مسرحي بقدر ما يكون عملا احترافيا يتضمن كل عناصر الجودة والاحترافية، يكون، بالمقابل، قريبا من الجمهور ومرتبطا به؟. كيف يمكن إرجاع ثقة الجمهور المغربي الذي يتسم بالتعدد والتنوع؟. ويعتبرون الإجابة عنها أولى الخطوات في إنتاج فرجات مسرحية مغربية، كما الحال مع المخرج عزيز أبلاغ في مسرحية “دون جوان” والمخرج أمين غوادة في عرض “الرّابوز” وعلي البوهالي في المسرحية التي نحن بصددها الآن “بريسّا” والذي اهتدى، في سياق بحثه عن أجوبته الخاصة، إلى فرضية جعلها مرتكزا لاشتغاله الركحي. شخصيات تختار الرحيل بحثا عن فضاء أرحب تتحدد الفرضية في السؤال التالي: ماذا لو انطلقنا في إنتاج العرض من مواضيع يومية تلامس هموم وانشغالات المواطن المغربي المستهدف أساسا من العمل المسرحي، خاصة مواطن المدن الشمالية دون إغفال تشعب قضاياه وامتداداتها المكانية، وتقديمها بأسلوب واقعي وبلغة بصرية تبتعد ما أمكن عن الإغراق في الشكل دون إسفاف أو ابتذال!؟ فرضيته هذه، جعلته يختار بمعية المؤلف رحيم المسعودي، خمس شخصيات اضطرت للرحيل من مدنها واختارت إحدى مدن الشمال المنفتحة على العالم الآخر والمفضية إلى ما وراء البحر، محملة بمعاناتها وإحباطاتها، بحثا عن فضاء أرحب لتأمين مستقبلها أو استعادة ماضيها المهدد بالزوال. لذلك اختار المقهى كفضاء للتلاقي، وفي الوقت نفسه، فضاء للانطلاق والهجرة. ففيه تتجمع أحلام الشخصيات وتؤمن عيشها الآن هنا، وفي الوقت نفسه، مكان لتأمينها هناك/غدا. ففي المقهى يتجمع السماسرة الباحثون عن الراغبين في الهجرة، والأجانب الذين يشكلون بالنسبة للكثيرين جواز سفر لحياة بديلة. فهو الفضاء الوحيد القادر على تأمين الحلول للشخصيات الخمس. بمن فيهم الحاج (عبد السلام الصحراوي) صاحب المقهى الذي طفق يستشعر خريف عمره ويرغب في استعادة شبابه من خلال علاقته بحليمة التي يسعى للارتباط بها بعد عودته من الحج رفقة زوجته العجوز. حليمة (هند بن اجبارة)، الشابة الجميلة التي تسعى لتأمين المال لشراء عقد عمل والسفر خارج البلد، أو تأمين زوج شرقي قادر على حملها بعيدا عن الديار. وفي غيابه تعمد إلى استغلال جمالها في إغواء الرجال من أجل كسب مال إضافي يؤمن لها ما تبحث عنه، موظفة جمالها كسلطة للضغط على الحاج بغية كسب مال إضافي حتى لو اضطرت إلى التواطؤ معه لتقليص أجرة صديقتها “هاجر” وأخيه “المعطي” للاستفادة منها لتأمين عقد العمل، بل إنها تذهب حد دفعه للاستغناء عن فكرة الحج ومدها بثمنه. على عكس حليمة، تحضر شخصية “هاجر” (زاهو الهواوي)، صديقتها المطلقة التي عاشت مع زوج مغربي وخلصت في ختام تجربتها معه إلى أن الحياة التي تريدها لا يمكنها أن تستقيم مع أمثاله من المغاربة. لذلك فهي الأخرى تسعى للرحيل خارج الوطن خاصة بعد أن استطاعت العثور على عقد عمل “كونطرا” وتريد تأمين ثمنها، لكنها عكس حليمة تختار الاشتغال بجد بدل بيع جسدها. إذا كانت حليمة وهاجر شخصيتين تجريان وراء الهجرة، وتسعيان لتأمينها. فإن المعطي (علي البوهالي) المولع بإصلاح الساعات، يصر على التشبث بالأمل في تأمين محل صغير خاصة بعد أن عاد من تجربة فاشلة في الديار الإيطالية، ليجد نفسه في مواجهة عقلية أخيه “الحاج” المتحجرة الذي يشغله في المقهى كحمال ويصر على احتقاره ويوغل في إذلاله بسبب الغيرة. فالحاج يرى دوما في المعطي الشاب الذي ينافسه في كسب ثقة ورضا وحب حليمة. مقابل هذه الشخصيات الأربع، تحضر شخصية “ماني” (ياسر الترجماني) الشاب الإفريقي الذي هاجر إلى المغرب واستقر به، بحثا عن حياة أفضل، مستغلا ولعه بالموسيقى. فاختار قضاء جل يومه عازفا أمام مقهى الحاج مقابل ما يجود به المارة. ف “ماني” يشكل بالنسبة “للمعطي” الماضي الذي أضاعه حين قرر العودة إلى المغرب، لذلك فهو غالبا ما يقسو عليه لأنه يذكره بفشله قبل أن يعترف له في الأخير وكأنه يواجه نفسه ويقر لها بالخطإ الذي ارتكبه حين عاد من المهجر. تفاصيل أحداث المسرحية وارتباطها بالمعيش اليومي، دفعت بالمخرج علي البوهالي إلى الاعتماد على التمثيل الواقعي دون مغالاة أو إطناب، دافعا بإمكانيات ممثليه إلى حدها الأقصى مع بعض الانزياحات التي تنزاح بالعرض من بعده الواقعي وتزج به في المتخيل، خاصة في المشاهد المرتبطة بالأحاديث الداخلية التي تكشف نوايا الشخصيات والمسكوت عنه في تركيبتها. كما عمد السينوغراف “رشيد الخطابي” إلى رسم ملامح فضاء غارق في البينية من خلال اختيار اللون الرمادي الذي جعل المقهى تقف على الحد الفاصل بين الانفتاح والانغلاق، بين الداخل والخارج، بين الواقع والمتخيل، وقسم المخرج فضاء اللعب إلى فضاءات عدة مرتبطة بتيمات معينة أو بحالات نفسية خاصة. كما الحال بفضاء البوح أو فضاء السلطة الذي تحدده طاولة الحاج إذ تكتسب مع توالي العرض سحرا خاصا ويصبح مجرد النظر إليها أو الجلوس فيها عصيانا وتمردا على سلطة الحاج. ومن المثير في عرض “بريسّا” التوظيف الذكي للفنان “ياسر الترجماني” الذي لعب دور الموسيقي “ماني” الذي يعزف أمام مقهى الحاج، إذ زاوج بين العزف الذي يأتي كاستجابة لطلبات الزبائن وبين الموسيقى التي تعبر عن الأجواء العامة للمشاهد وتلك التي تتحول إلى صوت خارجي يعلق على الأحداث. عموما تبقى تجربة عرض “بريسّا” واحدة من التجارب التي تحتاج إلى الكثير من الدعم، بالنظر أولا إلى غمار الإنتاج الذاتي الذي اختارته الفرقة، وبالنظر ثانيا إلى الصدى الذي خلقه العرض بمدينتي المضيقوتطوان. وتشكل في اعتقادي الشخصي الانطلاقة الحقيقية للمخرج علي البوهالي ولفرقة مسرح الأفق التي تعد في المستقبل القريب بمسار سيكون له أثره الطيب على المسرح بالشمال.