لا حديث هذه الأيام في الأماكن العمومية، بين أفراد ومكونات المجتمع المغربي، إلا عن فيديوهات «الحريك» التي أصبحت منتشرة بكثرة على مواقع صفحات التواصل الاجتماعي، حيث عاد موضوع الهجرة السرية في صفوف المغاربة إلى الواجهة، في الوقت الذي كان التطرق إلى هذه الظاهرة مقتصرا فقط على المهاجرين القادمين من دول جنوب الصحراء. فمطلع كل أسبوع أصبح الرأي العام ينتظر فيديو جديد يوثق لعملية هجرة سرية حديثة، فوق زورق مطاطي تقوده عناصر شبكات تهريب المخدرات بين المغرب وإسبانيا والتي بالمناسبة تقدم خدمات مجانية لفائدة الشباب المغربي، وهو ما حدث أول أمس الثلاثاء، عندما انطلقت رحلة جديدة من شاطئ بنيونش بمدينة الفنيدق متجهة صوب الأراضي الإسبانية. وتشير أصابع الاتهام إلى تحمل الشبكات الدولية المتخصصة في تهريب المخدرات مسؤولية قيادة هذه الرحلات الجماعية البحرية فوق قوارب سريعة، لا تتوفر عناصر الحرس الإسباني على مثيلاتها، فيما يخص القوة والسرعة، وفق ما نشرته صحيفة ABC الإسبانية. جريدة بيان اليوم، اختارت الحديث في هذا الملف القديم-الجديد، انطلاقا من عينة محددة لتجارب واقعية لمجموعة من الشباب المغربي نجحوا في العبور إلى الضفة الأخرى، في الوقت الذي لا زال فيه البعض الآخر يحلم بوضع أقدامه في الأراضي الأوروبية، مقدمة الجريدة بذلك، نبذة عن تفاصيل ما عاشوه في رحلاتهم المميتة، وما يعيشونه من وضعية غير قانونية بديار المهجر. منذ ما يقارب خمسة عشرة يوما ورواد مواقع التواصل الاجتماعي يطالعون ويتقاسمون بشكل يومي فيديوهات لزوارق مطاطية تعبر بالشباب والأطفال المغاربة نحو الضفة الأخرى، حيث يبثون على المباشر رحلاتهم القاتلة في فيديوهات وصور حية. توثيق عملية الهجرة السرية بشكل إرادي في فيديوهات، ونشرها على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، أصبحت ظاهرة جديدة، فاجأت الرأي العام المغربي، الذي تفاعل معها بيأس وحسرة على شباب مغربي اختار المغامرة بحياته في عرض البحر الأبيض المتوسط، من أجل الارتماء في أحضان المجهول. ومن بين الفيديوهات التي أثارت استغراب المغاربة والإسبان، إقدام زودياك إسباني لشبكة متخصصة في تهريب الحشيش بين الضفتين، على عرض خدمة مجانية بشكل تلقائي على بعض المصطافين الشباب بمدينة طنجة، قصد الهجرة نحو إسبانيا، وهو ما تمت الاستجابة له دون تردد، في الوقت الذي لم يصدق فيه البعض “العرض” وظلوا متعجبين في المفاجئة التي لم تكن بحسبان. عملية العبور على متن هذا الزورق لم تتعد 15 دقيقة، حيث وجد الشباب والأطفال الذين تجاوز عددهم العشرة أنفسهم في شاطئ قادس يتحسسون مستقبلهم الملغوم، في دولة وصلت إلى التخمة بالمهاجرين غير الشرعيين، بعد الهجرات الجماعية المنظمة إلى أراضيها، بتأطير من عصابات أصبحت متخصصة في هذا النشاط الذي يدر عليها أموالا طائلة، ترتفع بحسب جودة الخدمات المقدمة فوق أمواج البحر. عملية العبور السالفة الذكر، استنفرت الحكومة الاسبانية وسلطات المدينة، التي ووجهت بانتقادات حادة من طرف الإعلام الإيبيري الذي وضع عناصر الحرس الإسباني-البحري، في قفص الاتهام، مشيرا إلى تساهلهم وتسامحهم مع هذه الرحلة التي تعد واحدة من بين العشرات من الرحلات التي تنظم بشكل يومي، هذا دون الحديث عن زوارق الحشيش التي تنشط بشكل اعتيادي بين الدولتين في تحد للسلطتين البحرية المغربية والإسبانية، بحسب ما نشرته صحيفة ABC الإسبانية. شباب وأطفال من مختلف المدن المغربية، أصبحوا يسافرون بشكل يومي إلى مدن الشمال؛ طنجة، العرائش، تطوان، الفنيدق.. وكذا مدينة الناظور، قادمين من مختلف مدن الداخل للبحث عن أدنى فرصة للعبور نحو إسبانيا ومن تم التوغل في باقي دول الاتحاد الأوروبي، من قبيل، إيطاليا، وألمانيا، وفرنسا، وبلجيكا.. مقامرين بأرواحهم من أجل حياة مفخخة بمشاكل وعراقيل ومضايقات أمنية مستمرة بالأراضي الأوروبية. العبور برا وبحرا وإذا كان البعض قد اختار الهجرة السرية في قوارب مطاطية، تسرع بالعبور ووضع الأقدام في الأراضي الأوروبية، أو تعجل بموت بطيء في أحضان مياه بحر شهد على مجموعة من الحوادث القاتلة كان أبطالها زوارق فشلت في أداء مهمة المغامرة بسلام، فإن باقي الأطفال والشباب الذي يهاب ظلمات وتيه البحر اختاروا العبور برا، وإكمال الرحلة في شاحنات لنقل البضاعة تنطلق من مدينتي مليلية أو سبتة السليبتين لترسوا في الموانئ الإسبانية حيث وجهتها المحددة. ومغامرة العبور عن طريق المدينتين المحتلتين، لا تقل خطورة عن البحر، إذ أن الأطفال الصغار والشباب يواجهون جملة من المخاطر في شوارع وأزقة المدينتين التي يتسكعون فيها بحثا عن قطعة خبز طيلة الأيام التي يترصدون فيها الفرصة للتسلسل نحو باخرة ما، ومن تم الظفر بفرصة للهجرة نحو “الخارج” كما يطلقون عليه، وتجارب كثيرة نجحت بهذه الطريقة في العبور فعلا نحو الوجهة المحددة. غير أنه ليس دائما تسلم الجرة، إذ كثيرة هي المرات التي يسقط هؤلاء الشباب والأطفال الصغار المغاربة في متاهات لا متناهية، مثل الاعتداء عليهم من طرف بعض المواطنين المدنيين الإسبان الذين يتواجدون بسبتة ومليلية السليبتين، بالإضافة إلى تعرضهم للسجن من طرف سلطات المدينتين التي تستنطقهم بلسان ولغة لا يفهمونها. وفي هذا الإطار، يحكي حسن.ر الذي يبلغ من العمر 19 سنة، ويقطن بمدينة فاس، لجريدة بيان اليوم، في حديث هاتفي معه، كيف تتعامل السلطات الإسبانية مع الراغبين في “الريسكاج”، بعد ضبطهم متخفين بين حاويات نقل البضائع، والذين يتم اعتقالهم واقتيادهم نحو مراكز خاصة، حيث تتم مساءلتهم عن سبب التواجد في هذه الأماكن، وطريقة دخولهم إلى المدينتين المسيجتين. وقال حسن للجريدة، إن السلطات الإسبانية كانت قد اعتدت عليه أثناء اعتقاله، صيف سنة 2017، إذ تلقى مجموعة من اللكمات من طرف عنصرين من الحرس الإسباني، الذين لم يستسيغا صمته وهو غير العارف للغة الإسبانية، مشيرا إلى أنه لم يكن يفهم ما الذي يدور بينهما من حديث، ما عدا استيعاب المضمون العام للمحادثة انطلاقا من حركات الأيد، وتعابير الوجه.. وختم حسن رحلته الفاشلة في العبور، بالعودة إلى مسقط الرأس، حيث كانت نقطة الانطلاق، مفيدا لبيان اليوم أنه يستعد خلال رأس السنة القادمة (2019)، أن يعيد الكرة نفسها، معتبرا هذه المناسبة فرصة سانحة ينتهزها مجموعة من الشباب للعبور، حيث ينشغل الحرس الإسباني في الاحتفال برأس السنة، منبها في الصدد نفسه، إلى أن وضعه الاجتماعي والاقتصادي مترد، ولا يمكن تحسينه بالعمل في البناء أو الضيعات الفلاحية والزراعة في المغرب، حيث لا يتجاوز الأجر اليومي 70 أو 80 درهما. رجل هنا ورجل في المغرب التواجد بشكل غير قانوني بدول الاتحاد الأوروبي، بالنسبة لمن نجحوا في العبور، ليس سهلا، وطريق العيش في هذه البلدان غير مفروشة بالورود والزرابي، أو الترحيب من طرف المسؤولين الأوروبيين، الذين يبحثون بشكل يومي عن حلول لكابوس تدفق المهاجرين نحو القارة العجوز، ف”الحراكة” المغاربة يعيشون أياما سوداء من حياتهم في البحث عن المأكل والمشرب، بعيدا عن أنظار العناصر الأمنية للدول التي يتواجدون بترابها. رشيد.م، البالغ من العمر 32 سنة، والحرفي في صنعة “تاخرازت”، بمدينة الدار البيضاء، كان قد اختار منذ ثلاث سنوات، الهجرة بشكل سري على قارب مطاطي إلى أوروبا، محققا بذلك حلمه الذي اشتغل عليه لمدة سنة بالعاصمة الاقتصادية، مؤمنا بذلك، تذكرة العبور للشبكة المكلفة بهذه المهمة، والتي قدم لها مبلغا ماليا وصل إلى 9000 درهما. رشيد انتقل طيلة هذه السنوات بين مجموعة من دول الاتحاد الأوربي، كإسبانيا التي استقر فيها لمدة شهرين، قبل أن يشد الرحال نحو فرنسا التي ضايقه أمنها، ليتوجه بعدها إلى إيطاليا التي كانت وجهته الأولى منذ نجاح عملية العبور، حيث استقر لمدة سنتين في هذه الدولة، ليفشل في إيجاد عمل قار بها، وهو الفشل الذي سيواجهه أيضا في علاقاته الحميمية التي كان يراهن عليها من أجل إنجاح حلم الٌإقامة القانونية بأوروبا. هذا الإخفاق في إثبات الذات، وإيجاد موطئ قدم في هذه الدولة، وضياع كل هذا الزمن، لم يثن رشيد من تجريب اختيارات أخرى، إذ اهتدى إلى التوغل أكثر إلى ألمانيا، التي يستقر بها حاليا، رفقة سيدة ألمانية، يمني النفس في إنجاح علاقته الزوجية بها، حتى يتسن له تسوية وضعه بشكل قانوني، بدولة المانشافت. وكشف رشيد للجريدة في محادثة فيديو على تطبيق الواتساب، كيف أن تحركاته قليلة جدا بألمانيا، فخروجه من المنزل مقترنا فقط بتنفيذ بعض العمليات السرية، المتعلقة بنقل “الغبرا” (الكوكايين) من منطقة لأخرى، مقابل مبلغ مالي يؤمن به مصاريف حياته اليومية، مشيرا إلى أنه كان قد ضبط من طرف الأمن الإيطالي وهو يحمل 100 غرام من الكوكايين، بعد أن تخلص من كمية مهمة لم يكن يعرف وزنها الحقيقي أثناء الاستعداد لضبطه، وهو اليوم مطالب بأداء ذعيرة مالية تبلغ قيمتها المالية 1500 أورو، في وقت زمني لا يجب أن يتعدى 15 يوما. ووصف رشيد لبيان اليوم وضعه بألمانيا بالقول: “رجل هنا ورجل فالمغريب”، مرددا: “أبحث اليوم عن جمع القليل من المال وبعثها لأمي مع أصدقاء لي يذهبون إلى المغرب، قد أحتاجها في حالة ما ضبطت من طرف الأمن الألماني وأرجعوني لمدينة الخميسات”. زواج لتأمين وثائق الإقامة فكرة الزواج بشابة من الدول الأوروبية، هي الفكرة السائدة اليوم بين كل المهاجرين السريين سواء الذين عبروا، أو من يخططون إلى “الريسكاج”، وعيا منهم بأن تسوية الوضعية القانونية لا طريق لها، كما أن البقاء في دول الاتحاد مرهون بمكان آمن لا يمكن العثور عليه إلا بالدخول في علاقات حميمية مع نساء وشابات شقروات. ضياء.د الذي يبلغ من العمر 24 سنة، كان قد اختار الهجرة من مدينة الناظور، مودعا عائلته بوجدة، حيث قضى أزيد من ثلاثة أشهر، وهو يترصد فرصة العبور من المعبر البري بني انصار، على أساس التسلل إلى ميناء مليلية المحتلة، حيث توجد شاحنات نقل البضائع، إذ تمكن من إيجاد مكان بين عجلاتها الضخمة التي قضى فيها يومين ليجد نفسه في ميناء الجزيرة الخضراء. وسرد ضياء لبيان اليوم في دردشة معه على الفايسبوك مغامرته الخطيرة في العبور، لاسيما وأنه قضى ليلتين كاملتين بين عجلات الشاحنة التي تأخرت في العبور، دون أن يأكل أو يشرب، وهو ما أثر على توازنه الجسدي والصحي، إذ فور وصوله إلى الجزيرة الخضراء ذهب لإحدى المقاهي يتسول ما يسد به رمقه، قبل أن تتلقفه أيادي الحرس الإسباني التي وضعته في مركز خاص بالأطفال وهو حينها لم يبلغ سن 18 سنة. قضى ضياء ستة أشهر بالمركز الخاص بالأطفال المهاجرين سرا، ليهرب في الصباح الباكر في إحدى أيام شهر مارس، من سنة 2012، حاملا حقيبته صوب دولة فرنسا حيث يستقر أفراد عائلته الذين رفضوا تواجده فيما بينهم، ليضطر بعدها إلى البحث عن ملجأ يقيه من قساوة برد وشتاء مارس. مر المهاجر السري ضياء بسلسلة من العلاقات الغرامية التي باءت جميعها بالفشل، لينجح في الأخير، بالارتباط بطفلة صغيرة أغرمت به، يبلغ عمرها 16 سنة، حيث أنجبا طفلا صغيرا، ربيع سنة 2016، وهو ما جعله يتنفس الصعداء، رغم أنه لا زال لم يستلم بعد وثائق الإقامة بشكل رسمي من طرف السلطات الفرنسية، الأمر الذي يجعل تحركاته صعبة جدا بمدينة تولوز حيث يقطن حاليا. الوقيتة دبا ديال الحريك دوافع الهجرة السرية إلى الأراضي الأوروبية، تختلف من شخص لآخر، لكن الجوهر يبقى واحدا، وهو الرغبة في تغيير الوضع الاجتماعي وتحسين المستوى الاقتصادي، بالإضافة إلى البحث عن كرامة مفترضة في بلدان أخرى غير بلد الأصل. محمد.ه، الثلاثيني، المنحدر من مدينة سطات، والذي يزاول مهنة ميكانيك السيارات بالمدينة ذاتها، اختار الهجرة فوق يم الأبيض المتوسط، ليحقق ما حققه أخوين له يستقران بإيطاليا، واللذان بحسبه ينعمان اليوم في رفاه رفقة أبنائهم، وهو ما يسعى إلى تحقيقه هو الآخر، من خلال الهجرة السرية، لاسيما وأنهما وعداه بمساعدته فور وصوله إلى إسبانيا. وأشار محمد الذي التقته بيان اليوم ليل السبت الماضي، بالصدفة في محطة أولاد زيان بالدار البيضاء، وهو يبحث عن حافلة متوجهة إلى مدينة طنجة، أنه لم يعد يستطيع العيش بين أفراد عائلته بسطات، خصوصا أمه التي تولي أهمية وعناية متفردة لابنيها المتواجدين بالديار الإيطالية، في الوقت الذي لا تعطيه أدنى اعتبار، لأنه بحسبه “لا يتوفر على المال، ولا على سيارة، أو أولاد يحملون الجنسية الإيطالية !”. وأفصح محمد، في حديث له مع الجريدة، عن مغامراته وهو يجرب “الحريك” مرات متعددة رغم الوقت الذي يأخذ منه وهو يحاول العبور، مرجعا ذلك إلى النصب والاحتيال من طرف بعض الشبكات التي لا تفي بوعدها، أو المراقبة الشديدة من طرف الأمنين المغربي والإسباني على الحدود البحرية. واعتبر هذه الفرصة مهمة بالنسبة له، لأنه خبر بحسبه، أسرار “الحريك” انطلاقا من التجارب الماضية، أو ما جمعه من معلومات ومعطيات من طرف الشباب الذين هم الآخرين ينتظرون جرس الإنذار للعبور إلى الضفة الأخرى، ومن تم تحقيق الحلم المؤجل، مرددا “الوقيتة دبا ديال الحريك”، في إشارة إلى الموجة الجديدة للهجرة السرية التي تقودها عصابات المخدرات بمدن الشمال. وقال لبيان اليوم، إنه اتفق هذه المرة مع شبكة رائدة بحسبه في الهجرة السرية، خصوصا وأنها تقدم خدمات مشهود لها من طرف من جربوا “الحريك” عن متن زوارقهم السريعة، حيث طلبوا منه تقديم 15 ألف درهما كمقابل لتأمين خدمات الرحلة، مردفا أنه قدم لعناصرها نصف المبلغ، في انتظار تزويدهم بالنصف الآخر فور وصوله إلى الأراضي الإسبانية. *** هجرة سرية بنون النسوة الزوارق المطاطية التي انطلقت خلال هذه الأيام من مدن الشمال، لم تحمل فقط الشباب والأطفال، بل النساء كان لهن أيضا نصيب وحظ وافر في هذا العبور القاتل، واضعين حياتهن وحياة رضعهن، في كفة واحدة إلى جانب الذكور، وهي سابقة في تاريخ الهجرة السرية بالمغرب. واختيار هذه الخطوة غير المحسوبة العواقب، تعد مغامرة خطيرة أقدمت عليها هؤلاء النسوة الذين صورت وجوههن في أشرطة فيديو ستبقى موثقة لهذه اللحظة سنوات وسنوات، خصوصا وأنها نشرت وحملت على مواقع وصفحات اجتماعية عديدة، تفاعل مع مشاهدها رواد الانترنيت بشكل سلبي.