لا شيء يدل على أن الأزمة الليبية تتجه إلى الحل، ومن تابع جلسة مجلس النواب المخصصة للتصويت على مسودة قانون الاستفتاء على الدستور، والتي انتهت إلى الفشل وتقرر تأجيلها إلى 13 غشت الجاري، لا بد أن يقف عند طبيعة الخلافات الحادة نتيجة المسودات المرتجلة التي تم إعدادها تحت الضغط السياسي والاجتماعي والنفسي، فإذا بالمادة الثامنة من مسودة قانون الاستفتاء لا تختلف في مأزقها عن المادة الثامنة في اتفاق الصخيرات، والتي كانت ولا تزال أهم عقبة في طريق الوفاق بين الفرقاء، بعد أن تحفّظ عليها الجيش بسبب دعوتها إلى "نقل كافة صلاحيات المناصب العسكرية والأمنية العليا، إلى مجلس رئاسة الوزراء في حكومة الوفاق فور توقيع الاتفاق، كما يتعين قيام المجلس باتخاذ قرار بشأن شاغلي هذه المناصب خلال 20 يومًا، وفي حال عدم اتخاذ قرار خلال هذه المدة يتخذ المجلس قرارات بتعيينات جديدة خلال 30 يوما". ورغم أن اتفاق الصخيرات، أمضي منذ 17 ديسمبر 2015، إلا أن أغلب بنوده لم تر النور، وحكومة الوفاق لم تحظ بتزكية مجلس النواب ما جعلها تعمل وفق شرعية أجنبية غير معترف بها من المؤسسة التشريعية الوحيدة التي يعترف بها الاتفاق، وتمرد مجلس الدولة (الإخواني) من صفته الاستشارية إلى فاعل أصلي في السياسة الداخلية انطلاقا من طرابلس، في الوقت الذي تشكلت فيه مؤسسات سيادية للدولة بالمنطقة الشرقية، وقدمت نموذجا يغري بإمكانية الاقتداء به في الخروج من الأزمة، لولا موقف الإسلام السياسي وحلفائه في الداخل والخارج، ممن يناصبون المشير خليفة حفتر العداء ولا يقدمون بديلا مقنعا ولو ضمن مناطق نفوذها في شرق البلاد. وفي حين لا تزال المادة الثامنة تلك تعرقل الآفاق السياسي، جاءت المادة الثامنة من مسودة قانون الاستفتاء على الدستور، والتي تنص على أنه في حالة تم رفض الدستور من الشعب لا تعتبر الهيئة التأسيسية مسؤولة عن تعديلها وعرضها من جديد، فمجلس النواب هو من سيشكل لجنة لصياغة مسودة الدستور في مدة أقصاها ثلاثة أشهر. بمعنى آخر إن رفض مسودة الدستور من قبل الليبيين في حالة عرضه عليهم، سيؤدي تلقائيا لا إلى إلغائها فحسب، وإنما إلى حل الهيئة المكلفة بتحبيرها، وهو ما يمثل انتهاكا للإعلان الدستوري لعام 2011، الذي أشار ضمن مادته الثلاثين إلى أن "مشروع الدستور يعتمد من قبل المؤتمر الوطني العام، ويطرح للاستفتاء عليه ب"نعم" أو "لا"، خلال ثلاثين يوماً من تاريخ اعتماده من قبل المؤتمر، فإذا وافق الشعب الليبي علي الدستور بأغلبية ثلثي المقترعين، تصادق الهيئة التأسيسية على اعتباره دستور البلاد، ويعتمده المؤتمر الوطني العام. إذا لم يوافق الشعب الليبي على الدستور تُكلف الهيئة التأسيسية بإعادة صياغته وطرحه مرة أخرى للاستفتاء خلال مدة لا تتجاوز ثلاثين يوما". ولسائل أن يسأل لماذا لا يتم تعديل المادة الواردة في الإعلان الدستوري؟ ويأتي الجواب من خلال إحدى مواده الأخرى والتي تؤكد أنه "لا يجوز إلغاء أو تعديل أي حُكم وارد بهذه الوثيقة إلا بحكم آخر صادر عن المجلس الوطني الانتقالي المؤقت وبأغلبية ثلثي أعضاء المجلس" أي ب132 صوتا، وهو ما يقترب من المستحيل في ظل الواقع الحالي نتيجة مقاطعة البرلمان من قبل عدد من النواب الذين اختاروا الانخراط في مخطط الانقلاب على نتائج انتخابات يونيو 2014 لأسباب عقائدية وسياسية وجهوية. ولا يقف الإشكال عند هذا الحد، فنحن أمام خلاف حاد آخر، بسبب المادة السادسة التي تنص على أن ينال مشروع الدستور ثقة الشعب إذا صوتت له ب"نعم" أغلبية ثلثي الأصوات الصحيحة للمقترعين الليبيين ونسبة لا تقل عن 51 بالمئة من المسجلين بسجلات المفوضية بكل دائرة من الدوائر الثلاث، وهو ما اعتبره بعض المراقبين مستحيلا وغير دستوري أيضا، ووصفوه بالشرط التعجيزي، خصوصا في ما يتعلق بنسبة الناخبين المسجلين لدى المفوضية العليا للانتخابات، ممن يفترض تصويتهم لفائدة الدستور، رغم أن الجميع يدرك مثلا أن 18 بالمئة فقط من الناخبين المسجلين شاركوا في تشريعيات يونيو 2014. فإذا نظرنا من حولنا إلى الإعلان الصريح من قبل قيادات الأمازيغ والتبو والطوارق وفيدراليي برقة بمقاطعة التصويت على الدستور، ورفضه جملة وتفصيلا، سنجد أنفسنا أمام واقع يتجه نحو مزيد التأزم، خصوصا وأن القوى الخارجية يمكن أن تضغط على أصحاب القرار السياسي، ولكنها لن تفلح في الدفع بالشعب إلى صناديق الاقتراع ليدلي بصوته في الاتجاه الذي يخدم مصالحها. إن معضلة الدستور الليبي لا تختلف عن معضلات دساتير كل الدول التي واجهت انتقالات سياسية بتدخل خارجي سواء كان مباشرا أو غير مباشر، كما حدث في العراق وتونس ومثلا، حيث تم تدوينها في ظل التوتر وتحت الضغط ووفق الإملاءات المسقطة، وبنوايا ليست سليمة دائما، وإنما كانت تجتهد في تفخيخ المواد، لتجعل منها قنابل جاهزة للتفجير في أي حين. ويبدو أن الدستور الليبي يتجه نحو التفجير المبكر، بدءا من مسودة قانون الاستفتاء عليه، وهو ما يطرح فرضية تبدو أسلم، وإن كانت مرفوضة من قبل الإسلاميين، وهي إجراء الانتخابات وتوفير الأمن والاستقرار، ثم الاتجاه لكتابة دستور رائق دون عوائق ودون توتر. كما أوضح إبراهيم أبوخزام، أستاذ القانون الدستوري الليبي، عندما قال إنه "لكي يحقق الدستور غاياته، فإن الأمم المتحضرة، تذهب إلى صناعة دساتيرها في ظروف الهدوء والاستقرار، ففي هذه الظروف، يولد التوافق وتتحرر الإرادة ويبلغ الحماس الوطني ذروته ويولد الدستور باعتباره تعبيرا عن التوازنات الطبيعية في المجتمع وانعكاسا للرغبة في العيش المشترك، أما حين يوضع الدستور في ظروف الصراعات المريرة والحروب الأهلية المدمرة، فانه يتحول إلى أداة مغالبة ووسيلة إرغام، تفرضها الجماعات الأقوى، ليس للحفاظ على توازنات المجتمع بل لتكريس انتصار زائف، وهي بذلك تؤجج الصراع، ويتحول الدستور المفروض إلى ظاهرة ظلم وليس أداة للتوافق".