تتطور تقنيات الكتابة. يترسخ الأسلوب. تتدحرج الكرة المُعجمية ككرة الثلج. تتسع الرؤيا. وتتبلور معالم هوية القاص. القاص الذي يفلح في التفوق على ذاته بتوالي الحكي. وبالتالي التفوق على نصوصه/محكياته الأولى. نادرا ما يستطيع الكُتّاب نسيان «مغامرة» تحبير تلك النصوص وتحديدا «أوّل نص / أول قص». بل تتوسم فيه صنارة تذكرهم طعما لتفاصيل الحبو على أرض الكتابة ، أو حيثيات أول مرة ترد أسماؤهم – على الإطلاق – في جريدة أو ملحق ثقافي، أو صدور أول مجموعة وأول كتاب… ومرات أولى أخرى محايثة للمداد والحرف والكلمة وما يسطرون. عندما يرتاد الكاتب قصته القصيرة الأولى فهو لا يرتادها نصا معزولا عن القادم مما ستخطه يُمناه. بل يلج فيها وبها ومعها عوالم الكتابة القصصية. وقد يتجدد نص القصِّ الأول باللواحق من النصوص فيسيطر ويهيمن. وقد يَبلى بمتواليات الناضج منها فيُقصُّ ويُتجاوز بل ويُتبرّأ منه. كل كتابة قصةٍ لها قصة كتابتها. فكيف يستحضر القصاصون والقصاصات قصة أول قصة؟ وما قصتهم مع النص الأول؟ هل يَعتبرونه عصفورا بلا أجنحة.. أم تراه ورقة زيتون خضراء نضرة يعتد بها؟ وما موقعه من باقي القصص؟ مؤسس أم عتبة أم مسودة..؟ أم هو منها كالأصبع من الكف؟ شيخ النصوص التالية أم طفلها؟ هل تقترب منه أم تنأى وتبتعدُ؟ الشهادات الواردة في هذا الملف تسلك بنا مجازة التخمينات مسرعة، وتقطع حبل الأسئلة برفق لتقربنا من شرارات الحكي الأولى ومن مهود أوائل القصص بل ومن لحودها في بعض الأحيان.. فالنصوص تراوح بين المحو والكتابة / النسيان والتذكر.. من النصوص الأولى من شهد كاتبها أنها ظلت تطل من قفص الذاكرة والمذكرة الشخصية إلى أن أصابها التلف. ومنهم من اعتبر نصوصه – ما قبل الأول – بمثابة «الأرنب» أو «الأرانب» التي تتقدم سباقا في العدو لتحث المتسابقين على الركض السريع. ومن الكُتاب من لم يكن في نيته أن يكتب القصة القصيرة أصلا، على الرغم من قراءته لها منذ بداية تعرفه على متعة القراءة.. ومنهم من يشاركنا متعة تفتح قرنفلة أو نص ومنهم من يرسم لنا فرحته بنشر أول سرد. بعد تصفيف المواد، كان لابد من وضع عناوين لها.. أتمناها عتبات ترقى إلى مستوى نصوص المبدعين المشكورين على مساهمتهم في هذا الملف. لقاء اليوم مع الأديبين: لحسن باكور وإسماعيل البويحياوي إسماعيل البويحياوي: منعطفات القلم وبوابتي السحرية حينما قرأت ديباجة ملف "قِصَّة القصة الأولى" ورد على البال أسراب تمارين سردية بعضها طويل وبعضها قصير. بعضها غطاه غبار النسيان وطمره كليا، وبعضها مازالت معالمه كما طللٍ دَرَسَ ولم يَدْرُسْ، لكنه مَرْقُوم في الذاكرة والوجدان. ومن تماريني القصصية الأولى " رمان عويشة". كتبت في السادس من يناير 2006، ونشرت بتاريخ السادس من يناير 2007 في موقع " القصة العربية". كنت لحظتها أشرف على مجلة تربوية موجهة لغير الناطقين بالعربية، ورافقها ما يشبه الورشات والكتابة القصصية الجماعية بمعية التلاميذ. وهي مستمرة إلى الآن في صيغة طقس دربة إبداعي سنوي كتحد لفعل الكتابة. قيمة هذا النص، وما في حوزته زمنيا، هي فيما أحاط به ورافقه وجاء بعده ليتحول إلى مؤشر في مسار الكتابة، وذاكرة للتخييل القصصي القصير جدا في تجربتي. هذه القصة كانت ضمن مجموعة نصوص( بعضها قصير وبعضها قصير جدا) شاركت بها في مسابقة نظمتها شعبة اللغة العربية لطلبة السلك الثالث والدكتوراه بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، إحياء لذكرى نجيب محفوظ. ولا أنسى كلمة، الروائي والقاص المغربي الكبير، أحمد المديني وهو يسلمني جائزة تشجيعية. صافحني وهو يردِّد: طريق الكتابة طويل وصعب. وخلال هذه العودة ( إلى القصة الأولى)، ترتسم أطياف منعطفات سلكها القلم وأخرى كانت ممكنة. ومع ذلك فمعاشرة القصة القصيرة جدا ممتعة وتستحق العناء والارتياد. أكيد أن مراحل الولادة والحبو وما يتلوها من مراقي الإبداع ترينا ضعفنا وهفواتنا وشرطنا الإبداعي، ونتفرج على أنفسنا كيف كنا نمشي بوعي أو بدونه إلى ممرات ومنعطفات قادتنا نحو ما نحن فيه الآن. وأنا هنا أفكر في النشر الإلكتروني بما له وبما عليه. مواقع صارت علامة على مرحلة في الثقافة العربية على صفحات "دروب" و" مجلة الفوانيس" و" القصة العربية". وكان النشر الإلكتروني وأجواؤه بوابتي السحرية نحو القراء والنشر إلى جوار كتاب مغاربة وعرب، شباب وغير شباب، وتعارف في شكل تشجيعات وتعليقات وحوارات. وكان طريقي إلى العديد من اللقاءات والمهرجانات والوجوه الفاعلة إبداعا ونقدا في الساحة الوطنية والعربية. لكن هذا الغمس في طفولة القلم وخربشاته يثير الانتباه إلى أن خصائص الكتابة المميزة لتجربتي المتواضعة حاضرة فيها على مستوى الأسلوب والتركيب والجملة الحادة والسريعة والواخزة والثيمات والحقيقة التخييلية. تنامت الكثافة وتضاعفت سرعتها واشتد عودها وتألقت ألوانها وفواكهها. وصارت تتخذ أشكالا بألوان وطعوم مستمدة من اللغة والتركيب والدلالة وهيئة النص. وهو ما يعني تقلص الحجم واتساع المعنى وتعدد الدلالات والمقاصد كما في عبارة النفري الشهيرة ( كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة ). وصار القضم والإضمار والحذف، واللحظة القصصية الوجيزة والخاطفة، والإيحاء والشكل الكاليغرافي العمودي ( تفاعل التشكيل اللغوي القصصي مع التشكيل البصري لرسم الحروف والكلمات والجمل وهيئة النص تفاعلا وظيفيا) سمة أسلوبية مميزة لكتابتي القصصية مع اختفاء تدريجي للتفاصيل والتكرار والسرد البطيء. تتميز تجربتي الأولى " أشرب وميض الحبر" 2008، بحضور نفس القصة القصيرة في بعض النصوص علاوة على الاحتفاء بالنص المفرد. لكن، ومباشرة بعد صدورها، اتجهت إلى الاشتغال بتشكيلة النصوص التي تمتلك سمة مميزة أو تنتظمها استراتيجة تتجاوز تقليد التأليف المتداول عند كل كتاب القصة القصيرة جدا (المجموعة القصيرة جدا عبارة عن تجميع لنصوص مفردة بين دفتي كتاب، في غياب اشتغال قبلي مسبق، ولها عنوان قد يكون هو عنوان إحدى القصص أو عنوانا مقترحا للمجموعة و صورة للغلاف) نحو تقليد الكتاب القصصي. وهو ما حاولته من خلال الاشتغال على البياض والإضمار والتناص ودرجة قصوى من الكثافة في مجموعتي الثانية " طوفان" 2009. ثم انتقلت لتجربة الثيمة الواحدة التي تنتظم المجموعة ككل في مجموعتي " قطف الأحلام"2010، بغاية كسر الكتابة المتنامية أفقيا نحو كتابة عمودية تشبه عناقيد أو تشكيلة قصص دُرر إن جازت العبارة. وهنا القاص يشبه الغواص؛ يغطس في نفس البحيرة الدلالية، لكنه في كل غطسة يطلع بصيد قصصي مختلف أو متنوع شكلا ودلالة ومقصدية. وأخيرا تجربة الحوار الأنواعي بين القصة القصيرة جدا والسيرة ذاتية وتخييلية وعددا من أشكال الكتابة عن الذات في مجموعتي الرابعة " ندف الروح" 2011. حوار بين الانفصال/ القصة القصيرة جدا، والاتصال/ السيرة.* لكن موقف الذات القاصة من الإنسان والعالم عبر ما تنسجه وتتقصده من حقائق تخييلية ظل هو هو؛ تسليط الضوء على الإنسان وشرطه الاجتماعي والنفسي والوجودي، والانتصار لما يحقق إنسانيته وكرامته عبر قيم الخير والمحبة والعدالة والتسامح، ونقد وفضح قيم الشر والقبح والظلم. لحسن باكور: مطارق البلدية.. قصة للذكرى والامتنان أود بداية أن أشكر صاحب فكرة هذا الملف الطريف والجميل في آن، لأنه جعلني أتذكر شخصا أدين له بالكثير، وليس أقل من أن أوجه له كلمة امتنان وعرفان في هذه اللحظة؛ إنه الشاعر المغربي المتميز أحمد بلحاج آية وارهام. كان له الفضل في نشر أول نص قصصي لي في بداية تسعينيات القرن المنصرم. سأتحدث عن أول قصة نشرتها، لأني في الواقع لا أذكر أول قصة كتبتها، كما أن بداياتي كانت شعرية، مثلما هو شأن معظم كتابنا، وهي ظاهرة في حد ذاتها تستحق التأمل. لكن تبقى القصة التي سأسلط عليها هنا بعضا من الضوء لانتشالها من عتمة الذاكرة، من كتاباتي المبكرة جدا، وكان لها أثر بالغ في استمراري في الكتابة التي منحتني شيئا غاليا جدا، ولا يشترى بمال: السعادة. كنت تلميذا في الثانوي، وأذكر أني كنت أزور الأستاذ آية وارهام، من حين لآخر، في خزانة المؤسسة التعليمية التي كان يعمل بها. ألج الخزانة بما يشبه الرهبة. أجده جالسا إلى مكتبه محاطا بالكتب، بمظهره الأنيق الذي كان يحرص عليه أشد ما يكون الحرص. يستقبلني باشا مرحبا. يمنحني كتابا من كتبه الخاصة كان قد وعدني به، أو يحدثني قليلا عن ضرورة القراءة المكثفة والواعية، في أفق السعي إلى بلوغ حلم الكتابة. في تلك الفترة كنت قد بدأت أناوش البياض محاولا دفعه للبوح، وأحلم بأن أرى اسمي مطبوعا في جريدة موقعا قصة من قصصي. في إحدى المرات، طلب مني أن آتيه بنص من نصوصي كي يتكفل بنشره في منبر ثقافي يهتم بأدب الشباب آنذاك. بحثت بين أوراقي عما رأيته أفضل قصة لي، وحملتها إليه. وقد تزامن ذلك مع العطلة الدراسية الصيفية، فقضيت الصيف كله أترقب أن يتحقق حلمي. ومع بداية الموسم الدراسي قصدت المؤسسة. بمجرد أن رآني بش في وجهي كعادته، ثم اتجه إلى داخل المكتبة. جاءني بجريدة مطوية ومحفوظة بعناية. فتحها على الصفحة الثقافية حيث نشرت قصتي، فطالعني عنوان القصة : "مطارق البلدية" وتحته اسمي بأحرف مضغوطة. أمسكت الجريدة بأصابع مرتعشة بالفرح والدهشة. شكرته كثيرا، وأنا أنتظر بفارغ الصبر أن أغادر كي أختلي بالجريدة. بقيت أحمل معي تلك الجريدة لعدة أيام، أعيد قراءتها وتأملها بلا ملل، وأريها لأصدقائي وزملائي في ثانوية محمد الخامس حيث كنت أدرس. ولا زلت أحتفظ حتى هذه اللحظة بتلك الصفحة التي فتحت صدرها لأول قصة قصيرة لي يتم نشرها. أين هي تلك القصة الآن؟ هل انتهى دورها بأن منحتني الفرحة في تلك اللحظات، وحققت حلمي الصغير بأن أرى اسمي مطبوعا في جريدة، كما هو شأن الكتاب الذين كنت أقرأ لهم وأعجب بهم في تلك الأيام؟ إذا اعتقدت ذلك للحظة، فإني سأكون ظالما لتلك القصة، ولذلك الفتى الحالم الذي تسحره الكتب والقصص الذي كنته آنذاك.. فمن جهة كانت تلك القصة أول نص أنشره، وتلتها قصص أخرى نشرتها في نفس المنبر الذي يهتم بإبداعات الشباب، مما منحني حافزا أساسيا على الاستمرار في الكتابة. ونعلم جميعا أن الحافز بأشكاله المختلفة، يمثل طاقة داخلية أساسية، تفيد في تجاوز ما يمكن أن يواجهه كاتب مبتدئ من عراقيل ومثبطات شتى. على الأقل ريثما ينضج ذلك الكاتب الشاب، ويشتد عوده، ويتملك ما يستطيع التعامل به مع واقع ثقافي أقل مثالية بكثير مما كان يعتقد ويأمل، وأشد بعثا للإحباط في النفس. أما من حيث الموضوع، فأزعم أن بعضا من تلك القصة بقي على الدوام بداخلي، كما شكلت بداية لاختياراتي في الكتابة. كما أشرت كانت القصة بعنوان " مطارق البلدية "، فيها محاولة لانتقاد ما بدا لي آنذاك سلوكا سلبيا، والتفافا على مشكل ينبغي حله بدلا من التهرب منه. فقد كنت أتردد على سوق الكتب المستعملة بالقرب من المحطة الطرقية لمدينة مراكش، وبالقرب منه كانت هناك ساحة، حولت إلى منتزه بسيط، حيث غرست فيها بعض الشجيرات، وبنيت فيها مجموعة من الكراسي الإسمنتية، لكن الساحة سرعان ما أضحت تجمعا يوميا لمجموعة من المتبطلين والعاطلين عن العمل، الذين لا يجدون أين ينفقون وقتهم الفائض.. وفي إحدى المرات وجدت عمال البلدية قد انتشروا في الساحة، وانهمكوا في هدم تلك الكراسي رغم أنها بنيت حديثا وكلفت أموالا.. استفزني ذلك وكتبت تلك القصة التي أسميتها " مطارق البلدية ".. وبعيدا عن أي ادعاء، أقول بأني منذ ذلك الوقت إلى الآن، وأنا دائم الحرص على جانب القضية في قصصي. إذ لا تكاد تخلو قصة من قصصي، في ما أزعم، من قضية مهما كانت صغيرة أو بسيطة، لكن دون أن يعني ذلك البتة الكتابة تحت توجيه أفكار إيديولوجية ما، مما يمكن أن يصيب الجانب الفني للقصص بالخفوت أو الضمور.. شكرا لأنك جعلتني أتذكر تلك القصة، وأستعيد بعضا مما خلقته بداخلي آنذاك من بهجة، فاضت عن صدر الفتى الذي كنته. والشكر موصول لك أيضا لأنك جعلتني أتذكر ذلك الرجل الذي أذين له بالفضل في نشر أول قصة لي. وإنني هاهنا أنحني له تقديرا وتبجيلا..