لا أدري لماذا أنا منشغل الآن بلقب ذلك الحمار الغائر في وهاد الذاكرة؟ زمان، كان الحمار ذاته هو ما يثير حفيظة إعجابي بقامته السامقة ومنكبه المتين وسيره الحثيث وصوته النكير وزغبه الأشهب الفاتح ، ثم فحولته التي لم تكن تعشق إلا الأفراس، بل الأخيرة هي التي كانت تقصده طائعة متلهفة، وبقوالب السكر لصاحبه لمعلم قدور، طمعا في هندسة نسلها إلى البغال مكينة الحرث والكسب. فمن، غيره ، بالقادر على المحافظة على ذرية هذه الأداة الإنتاجية الحية؟ الوحيدة الأتان، التي بإمكانها ذلك أيضا، ليست في مقام العشق المتعجرف لجياد السادة. يشهد على حظوة وشهرة الحمار، أن صاحبه الذي لم يكن يفارق متنه كقلوص متهالك عتي، بين القبائل، لم يكن معلوما، بل ولا عائشا إلا به ومعه وفيه. وما نال لقب أو حرفة «لمعلم قدور» الذائعة، إلا بفضل حماره النصري، المبجل الوحيد بين حمير القبيلة المنذورة للشقاء والتكاثر والتفريط، تماما كمثل «الحمار الجامع» على الأقل، من أيام بخلاء الجاحظ إلى «حضرة الحمار المحترم» للقاص «أبو يوسف طه»، فهي التي تجر عربات الفقراء وتحرث بقعهم وتدرس سنابلهموتطفئ شهوة عزابهم بل وحتى بعض المسنين من أراملهم. (أحد المتهورين، لما عجز عن إيلاج شيئه، لعب بإدخال عصا غليظة في إست أتان فنفقت المسكينة) وهي التي تبيت خارج البيوت و لا خوف على سرقتها، وهي التي تتكاثر في غفلة من الزمن، وحتى ضدا عليه،كما لا يحدث مع البقر الشريف، بتعليق أبي ذات غضب حانق على أتاننا و جحوشها الذين أتوا ليلا على كيس الحبوب الذي كنا سنطحنه غدا، مضيفا، وهو يزبد ويرغي: إوا بصح أللي ما عندو هم ..كتولدولو حمارتو... إن حرفة لمعلم قدور الوحيدة هي حماره. ينحني تحت جموح الشهوة، ويحرص، بكلتا يديه، على استقرار الماء المبروك في رحم الفرس. لم يكن للمعلم قدور زوجة ولا ذرية.هناك من يردد انه عاقر، وهناك من يشيع أنه عنين.أما أنا فتراني اليوم عائدا إلى ابن منظور (كما يفعل البعض للتدليل على واسع المعرفة أو لادعائها) طلبا لتجلية هذا اللقب «النصري» الذي لم تسعف فتوحات الهندسة الوراثية قبيلتنا، بعد، ببديل لوظيفة فحولته. هل هو سليل قبيلة بني أسد العربية الجزيرية؟ هل هو من سلالة قرية نصرى الشامية؟ هل هو موريسكي منحدر من إمارة بني نصر؟ ثم كيف كان (من الكينونة) هذا المخلوق المنصور بين ذرية الحمير؟ وكيف انقرض دون أطلال ولا رثاء، تاركا عشيرة البغال في مهب الزوال؟ لم أهتد إلى جواب. إنما قفزت إلى إحدى بقع الذاكرة البهجة التليدة لأقواس النصر تلك.بهجة كنا نتلقف خبر مقدمها شهرين قبل حلول العيد الوطني الأثير. لما تبنى في مداخل الفيلاج القريب. والمحظوظ منا هو من كان له قصب سبق رؤيتها، وروايتها لنا. لما يحل العيد كان لمعلم قدور يدخل الأقواس هذه على صهوة حماره النصري هفهاف الجلباب ناصعه، أو الحمار هو الذي يدخلها منتصبا عاليا وعلى متنه هذا القلوص الآدمي.أما نحن الأطفال فمن العربات الواطئة نشرئب إلى علوها الشامخ مبحلقين. ونكتشف بأمهات عيوننا، لأول مرة، المصابيح الكهربائية الغزيرة وبالألوان، كما نكتشف الخبز الطويل (الكومير، أو الباريزيانا عند بيضاوة) والكوفتير (هذا الذي علمت لاحقا ، في المدرسة، أن إسمه بالفصحى هو المربى)، والروائح العلنية للسكر (بضم وتشديد السين) والسوليما. وبعد، من ينكر من جيلنا وسابقه ولاحقه ، كرم أقواس النصر تلك. وأكسسواراتها في إسعافنا، ومعلمينا أيضا ، خلال مادة إنشاء العيد الوطني؟ الثابت أن الحمار النصري هذا نفق قبل صاحبه الذي سيلتحق به كمدا.لكن المشكوك في روايته هو سبب نفقه. فمن قائل بسقوطه منهكا جراء كثرة عشيقاته الأفراس. وقائل بأنه سقط بكيد فلول الأتان على صده. وقائل بأن البغال سئمت أبوته الهجينة التي لا ترث عنها غير الكد والشقاوة والعقم والعنة. وقائل بأن الأسياد الجياد لم يرضوا بمغامراته الجنسية مع الأفراس. وقائل بأن القوم صبوا جام حسدهم على مقام لمعلم قدور المبجل بحماره. وما قمت، أنا، بالبحث عن أصول لقبه «النصري» إلا بدافع الفضول. وها أنني افترض أنه عربي قح هذا النصري الذي افتقدته ديار قبيلتنا إلى الأبد. فعسى أن يكون له أشقاء يدبون، بعد، بأرض الجزيرة أو الشام.ويحنون إلى نداء هذا الحنين، أو الدم العربي المشترك، أو عسى أشقاؤه قد استكانوا هناك بمروج الأندلس حتى لا تطوح بهم حروب الاسترداد بعيدا، ويفقدون فردوسهم مثلنا. لهذا ما عادوا يذكرون، اليوم، إخوانهم المغاربة الذين يتم جمعهم بالعشرات في إسطبلات كريمة ببلدتنا، ليتم تهجيرهم في شاحنات خاصة للكد بالضفة الأخرى للمتوسط. إنما لست أدري هل حمار الشاعر الاسباني خوان رامون خيمينث، الصديق الرفيق الحميم الصغير الرقيق الصلب الحلو، والذي رفع الشاعر روحه، وبحبر ذهبي، إلى المروج الخضراء للسماء، أندلسي؟ أم إسباني؟ أم مغربي حتى؟ أم كلهم دفعة واحدة؟