الصحافة الحزبية في بداية السبعينات، وفترة الثمانينات، والتسعينات، كانت صحافة مناضلة، وصحافة قرب من المواطن، تحمل همومه وتدافع عن قضاياه السياسية والاجتماعية بالدرجة الأولى، والتي كانت تدفع جريدة البيان ثمنها مع كل مرة. فالمقالات التي كانت تنشرها جريدة البيان آنذاك، قبل أن يتغير اسمها إلى جريدة بيان اليوم، كثيرا ما خلقت صدامات مع السلطة، وأصحاب النفوذ والمال، من أرباب شركات ومعامل الذين كانت تُمس مصالحهم بمقالات الصحافيين المناضلين من داخل الجريدة الذين لم يساوموا يوما بثمن، أو تلهفوا وراء الأظرفة والملصقات الإشهارية مدفوعة الثمن. فسي علي، كما كان يلقبه الجميع داخل الجريدة، كان حريصا في الدفاع على قضايا الفلاحين، والطبقة العاملة، والمسحوقة، والضعيفة، إيمانا منه بأن السبيل الوحيد للتغيير هو الكتابة، والانتقاد البناء، وإزعاج السلطة، لإيصال صوت المتضررين والدفاع عن حقوقهم المشروعة. جريدة البيان، كانت قد عانت من المنع خلال فترة الثمانينات (وبالضبط خلال سنة 1984)، بعدما تم منع نشرها وتوزيعها، حيث كان يطلع رجال السلطة والمخابرات بشكل يومي على المقالات المنشورة في العدد، محللين طبيعة المادة، والخلفيات الفكرية والأيديولوجية التي تمتح منها شرعيتها، والتي لا تتماشى مع قناعة وتوجه السلطة التي أصدرت قرارا يقضي بمنعها، قبل أن تعود للصدور مرة أخرى في اسم جديد، الذي هو «بيان اليوم». وحكى أحمد سالم لطافي، في اتصال هاتفي له مع جريدة بيان اليوم، ظروف، وملابسات، وكواليس هذا المنع الذي استمر 72 يوما، قبل أن يستقبل الراحل الملك الحسن الثاني، الأستاذ علي يعته، بالقصر الملكي في الصخيرات، ليخبره بإصدار جريدته مرة أخرى، نظرا للوطنية الصادقة التي يتحلى بها الحزب، ويعبر عنها في صفحات جريدته. وأفاد لطافي للجريدة، كيف احتفل الرفاق وقتها بإعادة صدور الجريدة، بعد التضامن الواسع الذي عرفته من طرف العديد من الأقلام التي كانت تؤمن عندها، بحرية التعبير، والدفاع المستميت على صحافة الرأي التي تتبنى هم وقضايا المجتمع. وقرار منع صدور جريدة البيان، واجهه علي يعته بكثير من الثبات والرزانة، حيث ظل مصرا على طباعتها رغم الحصار والتطويق الذي كانت تشهده الجريدة، من طرف رجال الأمن والمخابرات الذين كانوا يراقبون كل صغيرة وكبيرة، غير أن ثبات سي علي على الموقف، وإيمان الطاقم الصحافي والتقني الذي كان يشتغل معه بالقضية، جعلهم يناضلون من أجل إنجاح تجربة أخرى التي انبثقت مرة ثانية في جريدة «بيان اليوم». مؤسسة البيان بجريدتيها العربية والفرنسية، عانت كثيرا مع المضايقات، والمحاكمات، والمتابعات القضائية، التي كانت تربحها الجريدة، نظرا لصمودها وفرض وجودها وإثبات صحة ما ينشر فيها، وهو ما جعلها تكسب قراء أوفياء يرون في الجريدة ممثلهم الوحيد أمام السلطة والمسؤولين في المؤسسات داخل الدولة. الطاقم الصحافي الذي كان يشتغل بجريدة البيان، كانت مقالاته مزعجة، وتدخلاته مقلقة أثناء اللقاءات والندوات الصحافية، نظرا لانتقادهم الشديد على منجزات المسؤولين، مؤمنين بأن الصحافة نضال قبل أن تكون خبرا يتضمن معلومات وتصريحات صحافية. والمثال نستقيه من الصحافي عبد الكريم بنصغير، الذي قدم لجريدة بيان اليوم شهادة عن حياته الصحافية بمؤسسة البيان، وهو الذي احتك «بسي علي» كما يحب أن يناديه الذي كان يرى فيه القدوة والنموذج للرجل المناضل المشتغل صباح مساء دون تأفف ولا ملل، متخذا من الجريدة منزلا له، يقضي فيها اليوم بأكمله، وهو السر الذي جعل بيان اليوم، حسب شهادة المتحدث ذاته، تستمر وتواصل ميارها وتتمم سنتها 45 دون أن تتأثر بالضغوطات الخارجية بمختلف مستوياتها. منع الجريدة من الانتشار بشكل واسع كان يدفع الصحافيين، وفق عبد الكريم بنصغير، إلى الخروج نحو الشارع لبيع الجريدة، في إطار عرف «البيع النضالي» الذي كرسه المناضلون في عموم المغرب، حيث كانوا يجدون رجع صدى طيبا من طرف قراء أوفياء، ظلوا يساهمون بالقليل أو الكثير بهدف إنجاح المشروع الإعلامي الذي كان يمثلهم ويدافع عن حقوقهم ومطالبهم المشروعة «حيث سبق لي وأن بعت نسخة واحدة من الجريدة ب 100 درهم» يقول بنصغير. ويذكر بنصغير كيف أن سي علي كان يتحمل المسؤولية على المستوى الخارجي في الدفاع عن الصحافيين أثناء المتابعات القضائية، موصيا إياهم خلال الاجتماعات اليومية، بعدم كتابة أسمائهم على بعض المقالات «التي كان يشم فيها رائحة المحاكمات والتي ستجر له المتاعب مباشرة بعد نشرها وهو ما كان يحدث بالفعل» يتذكر بنصغير. جريدة البيان أتعبت كثيرا السلطة وأصحاب النفوذ الذين كانوا يتأففون من المقالات المزعجة التي تنتقد تدبيرهم اليومي للقطاعات التي يسهرون عليها، موضحا بنصغير أن «سي علي لم يتراجع يوما في انتقاد هذا أو ذاك إما في افتتاحيات الجريدة أو المقالات التي كنا نكتبها نحن الصحافيين، فمؤسسة البيان مدرسة بمعنى الكلمة». تجربة بيان اليوم مع المنع، والمحاكمات، والمضايقات الأمنية، أغنى مسيرتها التاريخية، الحافلة بالنضال، الشيء الذي جعل منها صحيفة ذات قيمة ووزن داخل الساحة الإعلامية، مكونة بذلك، أجيالا كثيرة من الصحافيين المحترفين والمهنيين المؤمنين بالقضايا الإنسانية العادلة، فهي المؤسسة الإنسانية التي لا تجري وراء الربح وكثرة الإثارة، بقدر ما يشغل بالها تبني القضايا المجتمعية بمختلف تشعباتها، حيث سيجد السياسي ذاته، والاقتصادي مادته، والمثقف أفكاره وأخباره التي تهم مجاله.. وتستمر تجربة بيان اليوم بخبرة 45 سنة من العطاء والفلاح..