من البديهي أن المعرفة تتحصل عبر العلم بما يفرضه من دراسة وتحليل واستقراء علمي. وذلك بالاعتماد على منهج مضبوط ومحيّن كفاية كي يحيط بالظاهرة المدروسة. لكنها تتحقق أيضاً، ويتم الوصول إليها بواسطة الفن، أي مختلف الأجناس التعبيرية المعروفة، ومن ضمنها تلك التي تعتمد آلية الحكي المُحْكَم بقواعد السرد وضرورات ما له صبغة درامية. الفن السابع بخاصة إلى جانب كل من الرواية والمسرح. تلك التي تتوسل إلى التخييل لبناء عوالم تأخذ فيها الظواهر تجسيداً حياً لها من خلال وقائع وشخصيات ووضعيات. والمقصود هنا هو التجربة الوجدانية بما تمنحه من واقع حي قريب، مماثل، وشبيه، مواز للُمقترح في المعرفة العلمية الخالصة. وفي عصرنا الحالي الذي تعبر عنه السينما أكثر وبكثرة، تمنح الأفلام السينمائية هذه التجربة مباشرة. هذا إذا ركزت على هدف المعرفة القريبة من المعيش اليومي، وعلى تلك التي تقارب المهيمن والسائد والمسيطر في العالم. أليس فيلم من قبيل «وول ستريت» لأوليفر ستون أحد أبرز الأعمال التي تُعطي المشاهد تجربة حية عن عالم المال والخدمات المرتبطة بالبورصة؟ تجربة تُعطي بالتالي معرفة لصيقة وحثيثة بالذي يتحكم في المجتمعات اقتصادياً؟ هو مثال دال في شكل عام على الذي تصنعه مقاربة للتجربة بالنسبة إلى العوام، كما بالنسبة إلى من يود تعرف الحياة والإنسان في صراعه الوجودي، كما في همومه المادية الصغيرة. الإنسان لا يكتفي بتحقيق الرخاء المنشود لكن يروم في الوقت ذاته نشدان التحقق الكامل الذي عنوانه السعادة. وليس أفضل من فيلم سينمائي قوي دراميًا وعميق دلالياً لملامسة هذين الهدفين عن كثب. سينما الجيل السالف لكن هل في سينمانا المغربية، كرافد من روافد السينما العربية، توجد هذه العينة من الأفلام التي تمنح المعرفة الوجدانية؟ سؤال مُلغَم ولا يبدو أنه مناسب اذا ما اعتبرنا القيمة الفنية لهذه الأفلام. لكن ذلك لا يمنع من وجود بعض الأسماء هنا وهناك لها النظرة ذاتها لدور السينما، ووجود أعمال تخرج عن نطاق الفرجة الخالصة أو الصناعة التقنية. مشاهدتها لا تكون مجانية الهدف، بل تمنح التجربة المشار إليها فوق. بالنسبة الى المخرجين لا يمكن التغاضي عن أفلام مصطفى الدرقاوي الذي ترك مرضه منذ سنوات فراغاً كبيراً في المشهد السينمائي المغربي. في أفلامه «الفكرية» في المرحلة الأولى التي ساءلت عملية الخلق الكونية في مجال فضائي مغربي محض. بما هي تجربة تضع الإنسان أمام خياراته الشخصية المتعلقة على رغم منه بالظروف العامة. فمغرب سنوات السبعينات والثمانينات من القرن الماضي كان بؤرة عذراء تظهر غرابة التجربة العذراء. نرى ذلك في «أحداث بلا دلالة» و «أحلام شهرزاد الجميلة « و «عنوان موقت». لكنه سيفعل الأمر ذاته في أفلامه اللاحقة السردية الجماهيرية حين قدم التجربة الإنسانية مغربياً على طريقة صلاح أبوسيف الواقعية، مانحاً بذلك وثيقة معرفية بحمولتين مختلفتين تزيد من ثرائها. في السياق ذاته تندرج أفلام الجيلالي فرحاتي وعبد القادر لقطع. في مشوارهما الذي دام عقوداً حتى أيامنا هاته. التجربة هنا أيضاً مُطبَّعة بالرؤية الفردية المؤسسة على ثقافة حقيقية، وعلى مخزون نظري سابق على الإخراج التلفزي، وعلى تراكم صوري ضروري من أمهات الأفلام القوية عالمياً. «عرائس من قصب» و «شاطىء الأطفال الضائعين» و «ذاكرة معتقلة» و «سرير الأسرار» في ما يخص الأول. «حب في الدارالبيضاء» و «بيضاوة» و «الباب المسدود» و «نصف السماء» بالنسبة إلى الثاني. هي أيضاً أفلام تغطي حقبة زمنية ممتدة إلى الآن. هي سردية خالصة يسيرة التناول، لكن عميقة الوقع، ميزتها أنها مشتقة من واقع منظور إليه وقد صار تجربة تقدم في النهاية المعنى. أي أنها تخصصه «بسهولة» للتنظير المفهومي، وتكرر كونها تنشر مجالاً لتجريب أي مفهوم، لأنها تجسد الإنسان. لا تحكي ولا تمتع ولا نقص لمجرد الحكي والإمتاع والقصص. هذه سينما تبدع بحق. ويمكن إيراد أسماء أخرى وهي كثيرة لكنها مجرد صانعة أفلام لا غير، محترمة وطيبة من دون أن تؤسس للنص والمعنى. سينما الجيل اللاحق وقد ذكرنا الأسماء أعلاه ونحن نستحضر أسماء لمخرجين من الجيل الحالي ينتمون في سياق السينما كتجربة. لكن يبدو الرابط فنياً وعاماً أكثر منه علائقياً يدخل في نطاق التأثير والتأثر المحتمل وجوده بين أجيال في مجتمع واحد وفي وطن واحد. فقد كان حضور التسلسل سينمائياً سيبدو معادلاً قوياً لأفلام مخرجين من جيل لاحق. على رغم أن بعضهم عملوا في سياج مخرجين مغاربة رواد قبل أن يصيروا مخرجين. لكنهم، وربما هذه المفارقة، أخرجوا أفلاماً خاصة بهم تمنح إمكانية عيش الفن السابع كتجربة معرفة بحق وحقيق. «البراق» و «جوق العميين» لمحمد مفتكر يُفَعِّلان في كل مقاربة قرائية أثر الصورة الموازية لتجربة الألم وفعله الباطني في تكوين شخصية فرد، كما لتجربة التقاط معطيات الواقع المباشر على شكل رموز يجب تشفيرها قبل الإقدام على النهل من الحياة. التوجه ذاته يميز أفلام حكيم بلعباس من بينها «خيط الروح» و «أشلاء» و «عرق الشتا» التي يفرض تشفيرها قراءة فضاءات التصوير التي تتحول فيها الجغرافيا إلى حامل متعدد ومتغير للحياة، وإلى مساقط مؤثرة في حركة الإنسان. هي وثائقيات تخرج من إطار النقل البسيط لتكون إطاراً لتمديد المفاهيم المتداولة كما المعقدة لتجد تجسيداً متتالياً ومتداخلاً لكل ما يعتمل في الوجود مأخوذاً في بقعة مغربية فالتة. وطبعاً لا يمكن إلا إضافة اسم هشام العسري في طرحنا هذا. الاختلاف بائن في الشكل والمضمون، لكن التناول هو ذاته كما بالنسبة إلى المخرجين الذين ذكرناهم. هنا التجربة تمر عبر الشكل المُعَاد تَكوينه أساساً ليحكي بما هو زوائد مُضافة. الصورة مقدمة عبر التكسير المتكرر. وهي طريقة أخرى فرضها موضوع أفلامه التي تصطبغ بالمعطى السياسي المُقدم صراحة وباللغة القاسية، السينمائية والمتكلمة. «النهاية» و «البحر من ورائكم» و «هم الكلاب»… أعمال تسمح بمتابعة محاولة تجربة معرفية حول الشكل الذي يعني وليس بمثابة وعاء، وحول المضمون السياسي وقد نُظِر اليه من منظور الأندركراوند كهامش يسمح بإعادة القراءة لمعطيات ذاكرة أليمة في الغالب لاتزال تفعل في الحاضر. موضوعات الاعتقال وقساوة العيش من دون كرامة. وفي النهاية كانت هذه محاولة عامة لرصد أفلام ومخرجين من المثير للفكر إدراج مساهمتهم السينمائية في ما هو أوسع وأشمل من مجرد سينمائيتها، أي كقِطع منظمة وفق منطق مُقَعَّد للمعرفة كمكملة للمعرفة السالفة المؤسسة على النص.