بقطع العلاقات الدبلوماسية مع المغرب، المجمدة أصلا منذ سنوات طويلة، يكون النظام العسكري الجزائري قد ارتكب خطيئة عمره، مثلما هي خطيئته الأبدية المسماة تجاوزا "البوليساريو". فبهذا القرار الارتجالي تكون الطغمة الحاكمة في الجارة الشرقية قد فقدت "المشجب الخارجي" أو "شماعة العدو الأجنبي" التي كانت دائما تعلق عليهما إخفاقاتها وخطاياها ضد الشعب الجزائري الشقيق. ولئن كان في الجزائر الشقيقة رجل واحد رشيد، أو على الأقل رجل يتملك حسابات التأمين على المخاطر المستقبلية، فإنه كان سيفتي على النظام العسكري المتداعي بعدم الركون لخيار قطع العلاقات الدبلوماسية مع المغرب، خصوصا في ظل مساعي الأيادي الممدودة، لأن مثل هذا القرار سيعمق من عزلته الدولية ويسحب منه "الذريعة" التي كان يشهرها دوما حكام المرادية وأصحاب النياشين العسكرية كلما واجهتهم إخفاقاتهم ومشاكلهم الداخلية. لقد كان حريّا بشنقريحة وتبون ورمطان لعمامرة أن يأخذوا العبرة قبل اتخاذ مثل هذه القرارات من تاريخ الشعوب الضاربة في جذور الدبلوماسية، ما دام أنهم في الجزائر يفتقدون عبق التاريخ وعبره. ففي التاريخ دروس للاستخلاص لمن لا هوية له ولا تاريخ ولا مرتكزات تقنن دبلوماسيته. فمثلا في خضم الحرب الباردة بين القطبين الأمريكي والاتحاد السوفياتي سابقا، سطع نجم محامي أمريكي متخصص في التأمينات اسمه جيمس دونوفان، استطاع أن يفرض رأيه على كبار الشخصيات العسكرية والأمنية الأمريكية في البنتاغون ووكالة المخابرات المركزية، بل تمكن من التأثير في القناعة الوجدانية لأحد أشهر القضاة الفيدراليين في أمريكا خلال القرن العشرين. لكن للأسف الشديد، لا تتوفر الجزائر الرسمية على حكماء مثل المحامي الأمريكي جيمس دونوفان، كما أنها تأبى أن تحتكم للتاريخ لأخذ العبر واستخلاص الدروس. فهذا المحامي الأمريكي استطاع أن يقنع قاضيا فيدراليا في بداية الستينيات من القرن الماضي بأن لا يحكم بالإعدام على جاسوس سوفياتي، رغم أن النظام السياسي والرأي العام الأمريكيين كانا يؤيدان هذا القرار بسبب حملات التهييج التي شاركت فيها وسائل الإعلام الأمريكية آنذاك، شأنها في ذلك شأن حملات التوجيه المعنوي التي تقوم بها حاليا قنوات الشروق والبلاد الجزائرية. لقد أقنع هذا المحامي المتخصص في التأمينات القاضي الفيدرالي بأن حكم الإعدام على الجاسوس السوفياتي سيحرم أمريكا مستقبلا من كل وسيلة للتفاوض، في حال اعتقال أي جندي أو جاسوس أمريكي لاحقا من طرف المعسكر الشيوعي. وفعلا لم تتأخر تخمينات محامي التأمينات، إذ سرعان ما تم إسقاط طائرة تجسس أمريكية داخل الأراضي السوفياتية وتم أسر الربان الأمريكي غاري باورز، وهو ما سمح لأمريكا بمقايضة سلامة ربانها بالجاسوس السوفياتي رودولوف أبل. لكن لماذا استحضار هذه القصة الأمريكية في معرض الحديث عن واقع جزائري سخيف؟ إن قطع العلاقات الدبلوماسية المغربية الجزائرية لن يضر اقتصاد المغرب والمغاربة في شيء، لسبب بسيط هو أننا أمام دولة غارقة في تدوير المشاكل الداخلية وهي قاب قوسين أو أدنى من الإفلاس السياسي والاقتصادي، كما أنها دولة تعرف غليانا في جميع حدودها باستثناء الحدود الغربية مع المغرب. فلماذا إذن قطع العلاقات الدبلوماسية مع جار صاعد اقتصاديا، وشكل دائما "شماعة وذريعة" للعسكر لشحذ اللحمة الداخلية المترهلة بدعوى مواجهة التآمر الأجنبي؟ فلو كان في الجزائر محامي واحد متمرس في التأمينات، مثل جيمس دونوفان، كان سيهمس في أذني شنقريحة وتبون بأنهما سيفقدان بهذا القرار بوليصة التأمين الضامنة للاستقرار الداخلي. وفعلا، لم يتأخر الموقف الأمريكي من هذا القرار الجزائري الارتجالي، فقد كتب اليوم الأربعاء أدم بوهلر الرئيس المدير العام للوكالة الأمريكية لتمويل التنمية الدولية مغردا "بأن الجزائر بقرار قطع العلاقات مع المغرب تكون قد اصطفت في الجانب الخطأ من مسار التاريخ". هذا التاريخ الذي حرمت منه الجزائر كثيرا بسبب غياب رمزية الدولة المركزية على امتداد كل الأزمنة، وها هم حكامها يمعنون اليوم في تجاهله رافضين استخلاص الدروس والعبر، ومصرين على دق آخر إسفين في نعش نظام الحكم العسكري الجاثم على قلوب الجزائريين منذ عهد الاستقلال.