أسئلة كثيرة تطرح هذه الأيام على مستقبل العلاقات الجزائرية المغربية، وما إذا كان بالإمكان أن تذهب إلى أفق تصعيدي أكبر، أم أن الرهان على اللعب بالأوراق الثقيلة، من شأنه أن يعيد ترتيب موازين القوى بين الطرفين. الجزائر قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع الرباط، متهمة إياها بالقيام ب «أعمال عدوانية لزعزعة استقرارها وبدعم حركتين انفصاليتين جزائريتين» هما «الماك» و «رشاد». المغرب، قبل هذا القرار الجزائري، أطلق نداء لتصحيح العلاقة بين الطرفين عبر مباشرة حوار ثنائي، ومنح الجزائر صلاحية تحديد وقته ومكانه، ولم يصدر عنه أي رد انفعالي تجاه قرار قطع العلاقات الدبلوماسية، ولا تجاه اتهامات حكام قصر المرادية. الجزائر، لم تكتف بهذا القرار، بل منع مجلس أمنها الأعلى الطائرات المغربية، سواء كانت مدنية أو عسكرية، من التحليق فوق غلافها الجوي، ثم أوقفت تدفق غازها عبر الأنبوب المغاربي، معلنة نهاية العقد الذي أبرمته مع المغرب لإمداد إسبانيا بالغاز عبر ترابه. رد المغرب لم يتعد بلاغا مقتضبا للمكتب الوطني للهيدروكربونات والمكتب الوطني للكهرباء والماء الصالح للشرب (بلاغ مشترك)، يؤكد بأن تأثير القرار الجزائري على إمداد الكهرباء سيكون ضئيلا، مع التأكيد على اتخاذ المغرب ترتيباته اللازمة لضمان إمداد البلاد بالكهرباء. هذه المعطيات التفصيلية التي ترصد قرارات اتخذتها الجزائر مع سياسة الهدوء وعدم الانجرار إلى ردود الأفعال من جهة المغرب، تخفي في الحقيقة جوهر الصراع، والذي يتلخص في تغير موازين القوى بين البلدين، واختلالها لصالح المغرب في السنوات القليلة الماضية، وانزعاج الجزائر من التسلح المغربي ومن تقدم دبلوماسيته في موضوع النزاع حول الصحراء. خيارات الجزائر الدبلوماسية على هذا المستوى، أبانت عن محدودية كبيرة، لاسيما وأنها تلقت ضربة قوية بإقدام المغرب من خلال قواته العسكرية بتأمين معبر الكركرات، وطرد مظاهر القوة العسكرية للبوليساريو بالمنطقة، ونجاحه في تأمين التجارة الدولية العابرة من المغرب نحو إفريقيا، كما تلقت ضربة أخرى، بعد أن باعتراف الولاياتالمتحدةالأمريكية بسيادة المغرب على الصحراء، وتم الإعلان عن صفقات كبرى بين البلدين، تنطلق قاعدتها من الأقاليم الجنوبية (مدينة الداخلة) فقد كان المتاح أمام الجزائر ثلاثة خيارات أساسية: أولا، فتح خط مع واشنطن لإقناعها بالعدول عن موقفها المعترف بسيادة المغرب على الصحراء، وثانيا، الضغط على فرنسا بشتى الطرق، لإرغامها للجلوس على طاولة الحوار مع الجزائر حتى يتسنى لها تفكيك علاقتها الرباط ومنع الدعم الفرنسي لقضية الصحراء، والثالث، هو التحرك من أجل إدانة السلوك العسكري المغربي في الصحراء، وإبعاد الجزائر عن الموائد المستديرة التي أطلقتها الأممالمتحدة لحلحلة الموقف، وتوفير شروط الحل السياسي لهذا النزاع المستدام. على المستوى الأول، أي الضغط على واشنطن، فقد تحرك اللوبي الجزائريبواشنطن مرتين، مستغلا صداقاته داخل الكونغرس الأمريكي، لكنه، لم يستطع أن يجلب دعم أكثر من 26 عضوا في الكونغرس في المرة الأولى، وحوالي 10 أعضاء في المرة الثانية، إذ كانت الجزائر، تتطلع إلى أن تعيد واشنطن تقييمها لموقفها المعترف بسيادة المغرب على الصحراء، فكانت استجابة الإدارة ألأمريكية للرسالتين اللتين وجههما هؤلاء أعضاء من الكونغرس الأمريكي في مناسبتين مختلفتين، ضعيفة وغير مؤثرة. على المستوى الثاني، فقد حاولت الجزائر أن تنهج أسلوبا تصعيديا متدرجا مع فرنسا، بدأ بتقليص امتيازاتها الاقتصادية بالجزائر (إلغاء عقود لشركات فرنسية، توقيف شركة رونو) ثم استغلت تصريحات ماكرون الخاطئة حول الذاكرة، لترفع من سقف التصعيد، وتتجه إلى منع الطائرات العسكرية الفرنسية من التحليق فوق غلافها الجوي، فضلا عن فتح نافذة لروسيا في مالي، وتأمين مرور الفاغنر عبر ترابها إلى هناك، مما أزعج قصر الإيليزيه. تقييم حصيلة هذا التصعيد لم تظهر في شكل انحناءة فرنسية للمطالب الجزائرية، بل على العكس من ذلك، لقد اضطرت الجزائر أن تصدر بيانا تنتقد فيه قرار مجلس الأمن الأخير بشأن الصحراء، وتزعم بأن فرنساوواشنطن لم تكونا محايدتين، مما يعني أن الضغط على فرنسا ولد سلوكا مناقضا لما كانت الجزائر تتطلع إليه. أما على المستوى الثالث، فقد كشف قرار مجلس الأمن الأخير حول الصحراء (رقم 2602) فشل الدبلوماسية الجزائرية، وعجزها الكامل عن تحقيق أي من أهدافها الثلاثة الاستراتيجية، إذ لم يتضمن القرار أي دعوة للمغرب للعودة إلى ما قبل تأمينه للكركرات، ولم يتم إدانة سلوكه العسكري بها، بل أيد القرار شرعية وجوده بها، وثمن دوره في تأمين التجارة الدولية العابرة إلى إفريقيا. أما الهدف الثاني الذي فشلت فيه الجزائر، وهو عدم تضمن القرار أي مضمون يتعلق بتقرير المصير، إذ أشار فقط إلى الحلول الواقعية القابلة للتطبيق، في إشارة إلى الخطة المغربية للحكم الذاتي. وأما الهدف الثالث الذي عجزت الجزائر عن تحقيقه، وهو الإقرار بحقها في رفض المشاركة في الموائد المستديرة التي تم فتحها أمميا لترتيب خطوات الحل السياسي المتوفق حوله لإنهاء النزاع في المنطقة. قرار مجلس الأمن، أعاد التأكيد على ضرورة حضور الجزائر لهذه الموائد، وعلى أنها طرف أساسي في النزاع، وليس – كما تزعم- بكونها محايدة فيه. ما يؤكد فشل الدبلوماسية الجزائرية في تحقيق هذه الأهداف الثلاثة، أنها أصدرت وربما لأول مرة، بلاغا من طرف وزارة خارجيتها، تدين فيه «النهج غير المتوازن لنص القرار» وتعتبره ثمرة «للضغوط الممارسة من قبل بعض الأعضاء المؤثرين في المجلس» وتقرأ فيه «تشجيعا» للمغرب على ممارسة «الابتزاز» وتعبر عن «رفضها للعودة إلى محادثات الموائد المستديرة». لا يهمنا في هذا المقال الموقف، بقدر ما يهمنا تقييم الأداء الدبلوماسي، فالجزائر استعملت كل الأوراق المتاحة، بما في ذلك إقناع روسيا بالتدخل لمنع هذا القرار، ومارست كل الضغوط الممكنة، لإجبار فرنسا على الجلوس إلى طاولة الحوار للضغط عليها لإنهاء دعمها للرباط في ملف الصحراء، لكن روسيا اختارت التحفظ الشكلي، فيما أقرت الدبلوماسية الجزائرية بنفسها، بكون فرنسا وأمريكا الدولتين المؤثرتين في مجلس الأمن، كانتا إلى جانب المغرب، واصطفتا لخدمة مواقفه. في السياسة، تنتج المواقف، لكن في الدبلوماسية تقيم الديناميات حسب قرارات الشرعية الدولية، والقرار الأخير، لمجلس الأمن، يؤكد بأن الدبلوماسية الجزائرية، رغم التبشير بانتعاشتها و«قوتها الضاربة» فشلت فشلا ذريعا في تحقيق أي تقدم يذكر، واضطرت الجزائر، وربما لأول مرة، أن تعلن عن تنديدها بقرار لمجلس الأمن، يهم قضية نزاع، تدعي أنها ليست طرفا فيه. خلفية إنتاج موقفها السياسي، أنها على طول سنوات من الصراع الدبلوماسي والسياسي مع المغرب، لم يصدر قرار لمجلس الأمن يدعم الموقف المغربي بهذا الشكل، فقد كانت قرارات مجلس الأمن عبارة عن توليفة لمطالب المغرب ومطالب الجزائر (البوليساريو). الخلاصة، أن الجزائر بموقفها السياسي، جعلت نفسها خصما للشرعية الدولية، وهو وضع لن يساعدها مطلقا على تحقيق أي تقدم، بل سيزيد من كبوتها الدبلوماسية، وسيعطي مصداقية أكبر للرباط، التي رغم الاعتراف الأمريكي بسيادتها على الصحراء، ورغم نجاح دبلوماسيتها في انتزاع التأييد الدولي لمبادرتها في الحكم الذاتي، ورغم قدرتها على حسم الموقف عسكريا، إلا أنها فضلت الانضباط للشرعية الدولية والاستمرار في الرهان على حركية دبلوماسيتها لتحقيق مزيد من التقدم. عن القدس العربي