في لقاء للرئيس الجزائري ببعض وسائل الإعلام، صرح بأن الدبلوماسية الجزائرية تقهقرت، وأن دورها في ملف النزاع حول الصحراء قد تراجع، وتعهد بانتعاشة وشيكة لهذه الدبلوماسية، وأن الجزائر ستعود لدورها الطلائعي في المنطقة، مستعينا في ذلك بنوستالجيا الماضي، للتغني بأمجاد هذه الدبلوماسية، وكيف كانت كلمة الجزائر هي التي تمضي في المحافل الدولية! والحقيقة أن هذا التقييم والاستشراف للدبلوماسية الجزائرية من لدن رئيس الدولة، لا يمكن فصله عن السياق الداخلي، وحاجة السلطة إلى تعبئة الداخل، ومحاولة اكتساب شرعية جديدة بعد إنهاك الحراك الشعبي، وذلك منذ سنة 2019. لكن، مع الوعي بالدور الداخلي لهذه التصريحات، فإن المدة الزمنية التي مضت عليها، تعتبر نسبيا كافية لتقييم اتجاهات الدبلوماسية الجزائرية، وما إذا كانت رهاناتها، بالفعل يمكن أن تحقق انتعاشة وحيوية تنبئ بالقدرة على لعب دور في مهم في المنطقة؟ عمليا أول ملف تطلعت الدبلوماسية أن تحدث فيه تحولا مهما، هو الملف الليبي، فحاولت منذ البدء تبني مقاربة، تدمج فيها دول الجوار، باعتبارها المعنية أكثر بهذا الملف وبتداعياته الأمنية والسياسية، والنسج على منوال الأسلوب المغربي في التعاطي مع الشأن الليبي بترك الليبيين، يحددون مصيرهم بأنفسهم. تقييم الحراك الدبلوماسي الجزائري على هذا المستوى، لم يتجاوز البعد الاستعراضي (دعوة الأطراف الليبية بحضور دول الجوار إلى مؤتمر بالجزائر) إذ لم يكن لأعمال هذا المؤتمر أي حاصل، وكان حضور الأطراف الليبية لمجرد فهم الدور الجديد المفترض للجزائر، بعد أن أصبحت معنية بشكل أساسي، بمدافعة سيناريوهات مصرية فرنسية إماراتية لا تخدم أجندتها (خطورة دعم الجنرال حفتر على الأمن القومي الجزائري). النتيجة التي تحصلت من هذه الدينامية، أن الأطراف الليبية عادت مجددا إلى المغرب، لاستكمال النقاش حول الاستحقاقات الانتخابية التي من المتوقع أن تجري في ديسمبر المقبل، بينما اتجهت لجنة 5+5 الأمنية والعسكرية إلى حسم الخلافات المتبقية بجنيف لترتيب صيغة بناء الجيش الموحد والأجهزة الأمنية الوطنية وإخراج المرتزقة من ليبيا. في ملف النزاع حول الصحراء، أو بالأحرى تدبير العلاقة مع المغرب، فقد اتجهت الجزائر إلى قطع العلاقات الدبلوماسية مع الرباط، واتهامها بمحاولة تقويض الاستقرار بالجزائر، كما حاولت استغلال ملف الغاز، لإحداث ارتباك بالأمن الطاقي المغربي، وسعت أيضا للتحرك على واجهة أممية، لإقناع المنتظم الدولي بالعودة إلى ما قبل تأمين المغرب للنقطة الحدودية الكركرات. وعلى العموم، يمكن تحديد ثلاث واجهات اشتغلت عليها الدبلوماسية الجزائرية لإضعاف المغرب: واجهة أمريكا لإقناع إدارتها بإعادة تقييم الموقف من الاعتراف بالسيادة المغربية على الصحراء، وواجهة إسبانيا، لإجبارها على قبول تدفق الغاز الجزائري عبر أنبوب الغاز ميدغاز، والتخلي عن إمداد الغاز عبر أنبوب الغاز المغاربي. وواجهة فرنسا، وذلك بممارسة ضغوط اقتصادية كبيرة عليها، وتجريدها من جملة من امتيازات اقتصادية في الجزائر لإجبارها على فك ارتباطها مع المغرب أو على الأقل عدم لعب دور المنحاز لمصالحه (عدم تجديد التعاقد مع شركة «راتيبي باريس» المكلفة بتسيير وصيانة مترو أنفاق العاصمة منذ عام 2011، توقيف عقد شركة «سيوز» المكلفة بمهام توزيع الماء في العاصمة منذ 15 سنة، فرض رسوم ضريبية على المستوردات الفرنسية بما أفضي إلى إغلاق مصنع رونو بالجزائر). تقييم أداء الدبلوماسية الجزائرية على هذا المستوى، لم يفض إلى شيء ذي بال، فثمة مؤشران على أن اللوبي الجزائري في واشنطن، قد فشل في جر الإدارة الأمريكية إلى الملعب الذي يتمناه قصر المرادية، فلم يحشد التأييد الكافي لإحداث التحول في الموقف الأمريكي. ففي المرة الأولى، وصل التحشيد إلى تعبئة 27 نائبا في الكونغرس بزعامة مؤيد جبهة البوليساريو السناتور إنهوف، لكنه فشل في الضغط لتغيير موقف الإدارة الأمريكية المعترف بالسيادة المغربية على الصحراء. وفي المرة الثانية، تضاءل هذا الحشد، ولم يستطع إنهوف من جمع سوى 10 أعضاء لتوجيه رسالة إلى وزير الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكن، لحثه على وضع ملف الحقوق الإنسان على رأس أولوياتها في العلاقات مع المملكة المغربية ولدعم حق تقرير المصير. على مستوى تدبير ملف تصدير الغاز لإسبانيا، فقد لم تستطع الدبلوماسية الجزائرية طمأنة مدريد بتأمين تدفق الغاز عبر أنبوب ميد غاز، رغم تأكيد الرئيس الجزائري أنه في حالة وقوع أي عطب فإن الجزائر جاهزة لتأمين تدفق الغاز إلى إسبانيا عبر البواخر، ويبدو أن إسبانيا، تبحث عن خيارات إضافية حتى لا يتعرض أمنها الطاقي للتهديد، ولا يرجح أن تكون الجزائر قادرة على استعمال ورقة وقف إمداداتها من الغاز إسبانيا، لأن سيكبدها خسائر مالية فادحة. أما المغرب، فقد استثمر وضعية الخلاف الجزائري الإسباني، وبدأ يطرح إمكانية الاستعمال المعكوس لأنبوب الغاز المغاربي، وذلك من إسبانيا للمغرب، لتأمين جزء من حاجياته للغاز. أما على مستوى تدبير العلاقة مع فرنسا، فقد أخذ هذا الملف أبعادا جد معقدة، وامتدت رقعة الصراع، بشكل كبير، فلم يعد يقتصر على حرب اقتصادية، لإجبار فرنسا على ترك موقعها المصطف مع المغرب حسب ما يرى حكام الجزائر، بل تفجر هذا الصراع في جبهات متعددة، في ليبيا، إذ بدأت فرنسا تستعمل ورقة حفتر للضغط على الجزائر، وفي مالي حيث تعتبر الجزائر أن انسحاب فرنسا من عملية برخان هو بمثابة توريط لها واستهداف أمنها القومي، وزاد من تعقد هذا الملف، حشر موضوع الذاكرة فيه، وتناقض السلوك الفرنسي في التعاطي معه (مبادرات حسن النية بتقديم جماجم مقاومين كانوا في متحف فرنسي إلى السلطات الجزائرية، ومبادرات استفزازية لحفل استقبال للحركيين خونة في قصر الإليزيه وتقديم وعود لهم بالتعويض). تقييم دبلوماسية الجزائر تجاه فرنسا، كانت نسبيا متوازنة، إذ استعملت أوراقا قوية بحوزتها، مثل إلغاء امتيازات فرنسية في الجزائر، ومنح امتيازات مقابلة لتركيا، وفتح منفذ لروسيا في مالي، فضلا عن تأمين وصول الفاغنر إليها، مما اعتبرته فرنسا تهديدا للأمن والاستقرار في المنطقة. لكن نجاح الجزائر في إدارة التوازن مع فرنسا لم ينتج عنه أي مخرجات تحقق تطلعاتها، فتضرر الاقتصاد الفرنسي من جراء توقيف عقود مع شركات فرنسية في الجزائر، لم يدفع الموقف الفرنسي إلا لمزيد من المناورة، واستعمال أوراق ضغط مقابلة، حتى توسعت رقعة الصراع، وأخذت أبعادا إقليمية (ليبيا، تونس، مالي، الصحراء) ولم تجن منها الجزائر أي مكسب سياسي، يعزز دورها الفاعل في المنطقة. فلا فرنسا غيرت موقفها من المغرب، ولا الجزائر جرتها لملف التفاوض المباشر بما يخدم مصلحتها. وهكذا، كان تقييم أداء الدبلوماسية الجزائرية بعد تصريحات الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون سلبيا على العموم، فلا الأممالمتحدة استجابت لمطلب الجزائر بإعادة الكركرات إلى ما كانت عليه قبل تأمين الجيش المغربي لها، ولا الإدارة الأمريكية استجابت لضغوط اللوبي الجزائري في واشنطن، وأدخلت ضمن أجندتها تغيير موقفها من السيادة المغربية على الصحراء، ولا هي استطاعت أن تنتج دينامية توقف الاختراقات المهمة التي حققتها الدبلوماسية المغربية في ملف الصحراء، ولا هي أحدثت نقلة نوعية تثبت استئناف دورها، فلم تنجح في الوساطة بين مصر وأثيوبيا، ولم تقدم أي مبادرة للمصالحة الداخلية في تونس، ولم تنجح في إحداث توازن في الموقف الإفريقي، يقلص الامتداد المغربي في القارة. عن القدس العربي