يعرض حاليا ببلادنا فيلم أمريكي جديد يحمل عنوان "جسر الجواسيس"، قام بإنجازه وشارك في إنتاجه المخرج المشهور ستيفن سبييلبيرغ الذي اختار هذه المرة أن يرحل بالمشاهد خلال 132 دقيقة إلى عهد الحرب الباردة بين الولاياتالمتحدةالأمريكية والاتحاد السوفياتي من خلال قصة واقعية تتعلق بجاسوسين أحدهما سوفياتي والآخر أمريكي. الممثل المقتدر طوم هونكس هو الذي يقوم بدور البطولة في هذه القصة التي تنطلق سنة 1957 ببروكلين، و يشخص فيها دور المحامي "جيمس" المتخصص في قضايا التأمينات ونظرا لكفاءته تم تكليفه من طرف المخابرات الأمريكية كي يدافع بطريقة موضوعية ودون "شوفينية" على الجاسوس السوفياتي "أدولف آبيل" (الممثل البريطاني مارك رايلانس) الذي تم اعتقاله ببروكلين من طرف رجال المكتب الأمريكي للتحقيقات، وقد تم تكليفه بهذه المهمة الصعبة لتلميع صورة العدالة الأمريكية في الخارج. سينجح المحامي "جيمس" في الدفاع عن هذا الجاسوس و إنقاذه من عقوبة الإعدام بالكرسي الكهربائي، وتم الحكم عليه بالسجن لمدة ثلاثين سنة مما أثار قلق العديد من الأمريكيين ومما عرض المحامي لمحاولة اغتيال رفقة أسرته. ستشاء الظروف أن يتم في نفس هذه الفترة إلقاء القبض على طيار أمريكي شاب يدعى "غاري بويرس" (الممثل آوستين ستوويل) الذي كان يتجسس بالطائرة محاولا تصوير بعض المنشآت السوفياتية الحساسة، ولكن عطبا أسقط الطائرة فوق أراضي الاتحاد السوفياتي وتم اعتقاله بعدما قفز منها بالمظلة، وهو حدث أرغم الحكومة الأمريكية على التفكير في إمكانية إيجاد حل سلمي لهذه القضية من خلال تبادل الجاسوسين بين البلدين المتصارعين، وتم مرة أخرى تكليف المحامي "جيمس" بمهمة التفاوض مع المسؤولين السوفيياتيين، واشترطوا عليه أن لا يفاوض باسم الحكومة بل باسمه كمواطن أمريكي فقط، وأن يقوم بهذه المهمة في مدينة برلين بالجمهورية الديمقراطية الألمانية بسرية مطلقة، وهي مهمة متقلبة الأطوار ومحفوفة بالمخاطر سيحاول جاهدا، دون علم زوجته وأبنائه، أن يتفوق فيها في النهاية. الفيلم تاريخي وجيوسياسي وواقعي وكلاسيكي بشكله، موضوعه معالج بكيفية غير مألوفة في أفلام التجسس، كيفية لا تخلو من إثارة ومفاجآت في الكشف عن الصفقات السرية التي تبرم أحيانا بين البلدان المتصارعة، وفي كيفية التعامل إنسانيا مع الجاسوس من خلال منحه كل الوسائل للدفاع عن نفسه في محاكمة عادلة، واعتباره ليس خائنا بل شجاعا مغامرا بحياته من أجل وطنه. الأحداث والتطورات مبنية بجدية بالرغم من التساهل الذي يطبع البعض القليل منها، وهي تطورات تتوالى بإخراج سينمائي محكم على نغمات موسيقى تصويرية جميلة بإيقاع بطيء نسبيا. الفيلم فيلم يكثر فيه الكلام، ويعتمد أساسا على الحوار في التفسير والربط بين الأحداث، وهو حوار في أغلبيته جيد من ناحية المضمون، وقد بدلت في هذا الفيلم مجهودات على المستوى التقني والإكسسوارات و الملابس وكل ما يناسب الحقبة التاريخية التي دارت فيها وقائع هذه القصة، وبدل فيه أيضا مجهود على مستوى الكتابة والبناء كي لا يفقد مصداقيته وحبكته وحرارته الدرامية. الكاستينغ قوي وموفق مع تميز أكثر للممثلين طوم هانكس في دور المحامي "جيمس" ومارك رايلانس في دور الجاسوس "آبيل" المولع بالرسم وذو الطبع المثير بهدوئه ورزانته وثقته في نفسه حتى في أحرج وأصعب الأوقات. طوم هونكس شخص دوره هو أيضا بكيفية جيدة لا تختلف كثيرا عن أدائه في بعض أفلامه السابقة التي يجمع فيها بين الكاريزما والسذاجة والذكاء والبراءة والحكمة بتلقائية طبيعية ممتعة.