الحدود الجغرافية الترابية للدولة، مفهوم نسبي أصبح في تآكل مستمر أمام حجم المصالح والمخاطر أيضا. خلاصة تتسرب إلى أذهاننا أمام ما نشاهده في عالم تتحرك فيه قوى الدولة عسكريا واقتصاديا وثقافيا داخل دول أخرى، نحو الحدود الحقيقية، لضمان بقائها. إنها حدود شرايين حياتها الاقتصادية والثقافية. العسكر وكل القوى داخل الدول العظمى تقف اليوم عند حدود المصالح وليس عند حدود ترابية تقل أهمية عن الأولى. الحدود بمعناها الجديد أنجبتها الحداثة كمنتوج للعقل، لتشكل أحد عناصر الدولة القطرية الحديثة، أصبح مفهوما نسبيا تتخلله استثناءات جوهرية فرضتها التكتلات الإقليمية وحركتها المصالح الاقتصادية. ونحن نتأمل في معظم التدخلات العسكرية والتحركات الديبلوماسية للقوى الكبرى في عالم اليوم، بما فيها تلك التي توصف بالإنسانية، نجدها تصبو إلى هدف أوحد، هو حماية مصالح ذات أبعاد اقتصادية أو ثقافية بالمعنى الواسع للكلمة. عندما تدخلت الولاياتالمتحدةالأمريكية في العراق وفي أفغانستان مثلا، كانت الأهداف تميل ما بين الاقتصادي والأمني والتحكم في مصادر الطاقة وتكلفتها على المستوى العالمي، وتمتد بشكل أعمق، إلى هندسة خريطة ثقافية ودينية على هوى مصالح الغرب في إدارة الطوائف الدينية والعرقية، وإلى تأمين الحدود الترابية القصوى في عمق منطقة جنوب آسيا. في الفيتنام لم يكن الهدف من وراء القتال وإراقة الدماء الأمريكية هو حب لهذه البلاد، بل تحركت غريزة القتل من أجل تأمين حدودي بعيد ترابيا ضد التوسع الشيوعي، في محاولة لخلق مناطق عازلة بعيدة، موالية للغرب الرأسمالي ومحاصرة لنفوذ الاتحاد السوفييتي سابقا. نماذج أخرى لدول كبيرة تسير في نفس التوجه. تسعى هذه الدول دائما، ككيانات حية تحتاج إلى قوة من نوع خاص، إلى إعطاء الأولوية للمصلحة الاقتصادية وحماية مجالها الثقافي الذي قد تهدده تيارات مذهبية زاحفة ومقنعة للبشر. من مجملها اصطفاف روسيا وإيران والسعودية في سوريا واليمن ضد تيارات دينية معينة. تدخلات فرنسا في رواندا والزايير الكونغو الديموقراطية حاليا، ومالي وغيرها لا تخرج هي أيضا عن هذا الاتجاه. في المقابل، تنسحب الدول من جبهات قتالية وديبلوماسية وثقافية كلما إنتفت المصلحة المباشرة. انسحاب الدانمارك وكندا مثلا من الحرب على العراق و أفغانستان بسبب عدم وجود دواعي مصلحية تبيح التضحية بمواردها العسكرية والمالية. هكذا تتجدد الدول وتنتقل من دور تقليدي ثابت ومحافظ، داخل سياق ترابي محدد، إلى دور جديد متغير ملائم للسياقات الدولية الحالية، بنزعة براغماتية هجومية استباقية في عمقها. هذا الدور الجديد يعد إمتدادا لرؤى مذهبية، سياسية واقتصادية وثقافية، تضمن دوام الدولة وحماية مواردها الاقتصادية من جميع المخاطر الحقيقية والمفترضة أينما وجدت عبر العالم. هكذا تتفادى الأمم كل عامل مهما بعد جغرافيا، قد يشكل مصدرا مقلقا لقيمها وثقافتها وتوجهاتها الفكرية والدينية. حجم التدخل يرتفع، كلما وجدت توترات مرتبطة بالمقدسات التي تؤمن بها الدولة، على غرار التوجه الإيراني في العراقوجنوبلبنان وفلسطين. وهو نفس التوجه الذي جسده تدخل العدد الأكبر من الدول الإسلامية في دفاعها عن السعودية خصوصا أثناء حرب الخليج الثانية ضد العراق. المغرب أيضا عندما يساهم في تدخلات عسكرية في الخليج أو في إفريقيا، أو يبني جسورا وروابط اقتصادية وثقافية ودينية مع دول كثيرة عبر العالم. إنما يكون الهدف عندها هو حماية شرايين حياة الدولة والأمة المغربية في حدود بعيدة، وتعبير عن الوجود والفعل المؤثر. في خلافات المغرب والجزائر، الحدود الترابية المغلقة هي عائق حقيقي نحو تكامل وانفتاح اقتصادي وثقافي. هذه الحدود لا تشكل خطرا ينبغي الإصرار على الوقوف عنده. حدود ترابية تأزم العلاقات، وتبني لنا سدا أمام المصالح الحقيقية المتشابكة. قوى الجزائر يفترض فيها أن تعي حدودها التي يا يتعَيَّن حراستها. هي حتما حدود مصالح الجزائر الحقيقية غير المطابقة للترابية. حدود ترابية تأسست على مخاطر وهمية ومفترضة لا أساس لها. الحدود بدل أن تشكل منطقة عبور مثمر وانصهار بين عناصر الالتقاء بين البلدين والشعبين، أصبحت جرجا مفتوحا، ينزف معاناة وآلاما إنسانية يومية لا حصر لها.