في كل سنة تلفظ المؤسسات التعليمية المغربية عشرات الآلاف من التلامذة الراسبين أو المنقطعين عن الدراسة، منهم شريحة واسعة لم تعد تطيق التحصيل ولا الدراسة، فتنقطع عن رغبة وقناعة، وشريحة أخرى أقل عددا أدارت ظهرها للمدرسة لا لأنها عاجزة عن الاستيعاب والمعرفة، وإنما ارتأت ذات صباح استبدال الطريق المؤدية إلى الفصل الدراسي بوجهات أخرى أكثر راحة وطمأنينة من مقاهي وفضاءات مختلفة خالية من الضغوط النفسية والاجتماعية. وشريحة ثالثة لم تعد تطيق الأستاذ الفلاني وربما حتى الزميل الفلاني الذي يجد متعة لا متناهية في إهانة بعض زملائه وجعلهم أضحوكة بين الآخرين. وأرقام المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي الخاصة بالهدر المدرسي والواردة في تقريره لسنة 2017، تصيبنا بالدوار حيث الرسوب المدرسي في أسلاك التعليم الثلاثة يكلف خزينة الدولة أزيد من 250 مليار سنتيم، وحيث آليات الدعم الاجتماعي التي تبناها المغرب بغية تقليص الفوارق الاجتماعية في التعليم، لم يكن لها تأثير كبير في التخفيف من حدة الرسوب المدرسي. ومن هنا، فإن الانقطاع المدرسي المتزايد في صفوف التلاميذ وخاصة منهم الفتيات والتلاميذ القرويون (حوالي 200 ألف منقطع ما بين 2016 و2017 قبل حصولهم على شهادة الباكلوريا) يشكل إحدى أهم مظاهر الفوارق الاجتماعية في التعليم ويُثبت بالأرقام ضعف جودة المدرسة العمومية. ويبدأ الانقطاع الدراسي منذ التعليم الأولي، وأحيانا كثيرة منذ السنة الأولى، إذ ينقطع أزيد من 5000 من الذكور في هذا المستوى من التعليم الأولي، ويرتفع العدد إلى الضعف في صفوف الفتيات. والانقطاع في هذا المستوى، أي في مرحلة لم يكتسب فيها المتعلم بعد تكوينه الأساسي، يعني تحول التلميذ إلى مصدر للجهل والأمية. ولن يختلف اثنان في كون انقطاع التلاميذ في سن مبكر أو متأخر على السواء، لأسباب قد تكون اقتصادية أو اجتماعية أو حتى نفسية، دون اكتساب الكفاءات الأساسية للتكوين والمعرفة، يؤدي على التو إلى استفحال معضلة الفوارق الاجتماعية، وتفشي البطالة التي تضاعف رقمها، فينتج عن ذلك تزايد القلق وعدم الاستقرار في أوساطهم ، ويستفحل التوتر النفسي ويمتد ليشمل العلاقة مع الأسرة ومع الآخرين أيضا قبل أن يتحول لحالة عدم الاستقرار وانفعال دائم تؤدي في أغلب الأحيان إلى التسكع والانحراف والجريمة. وتشكل بطالة الشباب المنقطع أثقل عبء اجتماعي واقتصادي وأمني على المغرب. فإلى جانب انعكاساتها السيئة على مرحلة النمو الجسدي والنفسي لهؤلاء، فإن عجز الحكومة عن توفير فرص العمل لهم، تترتب عنه موقف نفور من الانتماء للوطن، ومن ثم السخط على المجتمع والتعاطي للانحراف والتفكك. ومن هنا يتعين على الجهات المختصة قراءة الواقع المدرسي قراءة واعية تفضي إلى تبني منهج علمي وطني لمعالجة المشكلة بناء على سياسة تشغيلية متكاملة تساوي بين التأهيل العلمي والتشغيل، والقيام أيضا، وبتنسيق مع الدولة، بعمليات فحص دقيقة للوصول إلى هؤلاء الشباب والعمل على إقناعه بالتصالح مع التحصيل والمعرفة من خلال حصص تكوينية في تخصصات مختلفة تساعدهم على الاندماج بسرعة وسهولة في النسيج الاجتماعي. وكان الراحل المهدي المنجرة، عالم المستقبليات، أول من دق ناقوس الخطر عندما قال في محاضرة حول “التفاوتات الاجتماعية في النظام التعليمي بالمغرب” ألقاها بقاعة علال الفاسي بالرباط قبل سنوات قليلة من وفاته، :”في الوقت الذي لا نجد شيئا نقترحه على الشباب المنقطع عن الدراسة من دون دبلوم أو أفق أو تكوين، وعندما يتخاصم هؤلاء مع النظام المدرسي قبل استكمال تعليمهم الإعدادي أو الثانوي لأننا عجزنا على توفير الظروف والبنيات الملائمة لاستيعابهم، فإننا نكون قد قمنا بعملية ادخار اقتصادي خاسرة، لأننا ساهمنا بشكل كبير في الرفع من حجم النفقات المستقبلية. واليوم ها نحن بصدد أداء ثمن باهظ بسبب انقطاع هؤلاء عن المدرسة. وليس من العيب في شيء أن يستنير المختصون والتربويون وعلماء الاجتماع بأفكار المهدي المنجرة وغيره في بحثهم عن أنجع الحلول لتمكين الشباب الراسب من ولوج وبشكل مباشر وتلقائي التأهيل المهني الذي يوفق بين المناهج التربوية التعليمية، والمناهج الاستخدامية التشغيلية بما يتناسب مع احتياجات سوق العمل، واضعين تصورهم على قاعدة أن التكوين المهني هو المفتاح الأول والوحيد الكفيل بفتح آفاق مهنية في المستقبل ترتكز على تكوين تعددي دائم ومستمر يتماشى مع التطورات التكنولوجية الحديثة، ويلبي حاجات المقاولات. معضلة أخرى يعاني منها النظام التعليمي المغربي وتكمن في اتساع الهوة بين امتفوقين والمتخلفين من التلاميذ، حيث الشريحة الأولى وتنتمي إلى الفئات الميسورة، متفوقة بشكل كبير معرفة وتحصيلا على الشريحة الثانية من أبناء الأسر الفقيرة. والسبب أن المقررات المدرسية الطويلة ترغم، من جهة، الأساتذة على اختصار حصص الشرح وتقتضي من التلاميذ، من جهة أخرى، اللجوء إلى حصص الدعم لاستكمال الفهم والتحصيل بمعدل 150 درهم للساعة بالنسبة للمواد العلمية و100 درهم للمواد الأدبية، وهو مبلغ لا تقوى على دفعه الأسر الفقيرة.. وينضاف إلى هذه المعضلة إصرار المشرفين على النظام التعليمي المغربي على تعيين المتوسطين ومحدودي الكفاءة من المتخرجين من المراكز التعليمية الابتدائية والثانوية، بالمؤسسات الواقعة بالبوادي والأحياء الفقيرة، تكريسا منهم لواقع الحيف الذي يطال أبناء الفقراء ولغياب عنصر العدالة الاجتماعية في تدبير الشأن التربوي بشكل عام.