خرج أحدهم، بعدما أفاق من النوم بعد منتصف النهار، يحمل في يده كلمة “خيانة” متخيلا أن يصعد بها الجبل ليضعها فوقه ربما يراه الناس، عندما يصبحون على رؤية ذلك الحبل. التفت فوجد نفسه في الأسفل، لايكاد يراوح قدماه. تفتقت مخيلته فصاح، يريد الظهور بإسماع صوته للناس، بترديد اسم الجبل، ثم تنبه كون كلمة “الخيانة” لازالت لصيقة بيده وترفض مغادرته وهي تقول له أنا هي أنت. نظر إلى المرآة فرأى نفسه فيها فانتابه الفزع تم بصق عليه. “الخيانة” تعني بيع الوطن ووضعه في الدرجة التالية بعد المصالح الشخصية والذاتية. الوحيد الذي يحق له أخلاقيا ويمتلك حق إصدار حكم هو المؤرخ العالم، المتمكن، والمشارك في الحياة العامة، والحاضر في تاريخ بلده، الذي لم يتهرب من وضع يده في العصيدة عندما كانت ساخنة. هل يحق لمن لم يكن موجودا، ولم يكن له صوت، في زمن الجمر الذي طوى بشدته جيلا بكامله، أن يتكلم عن عبد الرحمان اليوسفي. أين كان، ولماذا لم يسمع له صوت في ذلك الزمن، فقط صوت الجبل الذي بني على ظهره وظهر رفاقه، قواعد الحرية التي يحتمي بها اليوم، بل لم يسمع له أنه نسب الخيانة لأحد آنذاك، لأنه اختار الصمت، والصمت زمن الكلام خيانة. وظن أنه أستاذ في القيم والتقييم، مع فراغ ما يقول ويكرر. عبد الرحمان اليوسفي، لعلم حامل كلمة “الخيانة”، هو مؤسس من مؤسسي الديمقراطية اليوم التي سمحت له بأن يتكلم، ويحاضر، وتروج صورته في شبكات التواصل الاجتماعي، بينما لازالت كلمة “الخيانة” تحرق يده. لأنه لن يستطيع وضعها إلى جانب اسم يكبر عليه ويتمنع من الاقتراب منه. لتحكم على عبد الرحمان اليوسفي، يجب أن تسأل العارفين, ليخبروك أنه هو من قرر المطالبة بإلغاء ظهير 1935 حيث طلب من الفريق الاشتراكي في الفترة البرلمانية 1993-1997 أن يقدم مقترحا بإلغاء ذلك الظهير الذي أطلق عليه “ظهير كل ما من شأنه ..”. ولقد تشرفت بتقديم ذلك المقترح أمام لجنة العدل بمجلس النواب في تلك الفترة وهي اللجنة التي أجمعت كل أحزاب الأغلبية وبعض أحزاب المعارضة آنذاك على رفض إلغاء ذلك الظهير. إلى أن فوجئ الجميع بتدخل وزير العدل السابق الأستاذ الجليل مشيش العلمي الذي أعلن في تلك الجلسة كلمته المدوية في التاريخ إذ قال “باسم حكومة صاحب الجلالة نوافق على مقترح الفريق الاشتراكي القاضي بإلغاء ظهير 1935”. لم يسمع لك صوت آنذاك. عبد الرحمان اليوسفي، كذلك، طلب من الفريق الاشتراكي أن يقدم مقترحا فريدا في تاريخ المغرب، وهو مقترح قانون العفو الشامل على كل الأشخاص الذين حوكموا في سنوات الجمر, وكلفت آنذاك بالاتصال بالمرحوم محمد البشيري العضو البارز في جماعة العدل والإحسان، لمعرفة أسماء المعتقلين أو الحكوميين الإسلاميين في تلك الفترة ليشملهم مقترح قانون العفو، كما كلف أعضاء آخرين من الفريق بالاتصال بكل فصائل اليسار لنفس الغاية. واجتمعت مع المرحوم رفقة الأستاذ عبد اللطيف الحاتمي وسلمني لائحة لجميع الأشخاص المعتقلين أو الحكوميين في تلك الفترة. وبعد ذلك أصدر جلالة الملك الحسن الثاني رحمه الله عفوه الخاص الذي شمل كل المعنيين بتلك الفترة وأمر بتسوية وضعيتهم المالية والإدارية بأثر رجعي. عبد الرحمان اليوسفي, أقنع حزب “الاتحاد الاشتراكي” بالمشاركة في تدبير الشأن العام بعدما أعلن المرحوم الحسن الثاني في قلب البرلمان أن المغرب مهدد بالسكتة القلبية. وكان يعلم -كما كان كل الاتحاديات والاتحاديون يعلمون- بأن المشاركة في الحكومة سيؤدي الحزب عنها ثمنا غاليا، فقال عبد الرحمان اليوسفي الوطن أولا. عبد الرحمان اليوسفي, عندما طرحت عليه إشكالية صندوق التقاعد، لم يمد يده إلى جيوب المواطنين ولم يقرر زيادة في الأسعار ولم يقلص من صندوق المقاصة، وإنما مدها إلى جيوب الدولة، واقتص منها ما يزيد عن 10 مليار درهم لتسوية الأزمة الخانقة التي كانت ستحصل في صناديق التقاعد وأنقد آنذاك وضعية التقاعد بالنسبة لكل المغاربة. عبد الرحمان اليوسفي نفذ اتفاق فاتح غشت مع النقابات وهو الاتفاق الذي أبرمته الحكومة السابقة لحكومة التناوب معهم بمبالغ جد كبيرة إلى درجة أن وزير المالية آنذاك رفض التوقيع عليه لأنه كان يعتقد أن ميزانية الدولة لا تستطيع تنفيذه. لكن حكومة عبد الرحمان اليوسفي نفذته بكامله، وسوت وضعية كل الموظفين التي كانت مجمدة منذ سنين. عبد الرحمان اليوسفي، نفذ كذلك اتفاق محرم الذي كان نتيجة الحوار الاجتماعي الذي دفع إلى مأسسته، لتصبح اجتماعاته منتظمة كل سنة مثل ما يقع في الدول الديمقراطية. عبد الرحمان اليوسفي راجع كل القوانين المتعلقة بالحريات العامة والخاصة، من أجل توسيعها وجعلها متلائمة مع المعايير الدولية. وهي القوانين التي مكنت حامل كلمة “الخيانة” أن يكون له اليوم فم يفتحه وصوت يسمعه. عبد الرحمان اليوسفي اقتحم أهم وأخطر القضايا المجتمعية وهي قضية حقوق المرأة التي تم إخراج, ضدا عنها, ما يعرف بمسيرة الدارالبيضاء للاحتجاج عليه بإيعاز من جيوب المقامة الحقيقيين. بينما لم يسمع لحامل كلمة “خيانة” أي صوت فقط, وليس موقف. عبد الرحمان اليوسفي، لم يلغ صندوق المقاصة الذي هو صندوق يحمي الفقراء وإنما حرص على إرغام الشركات التي تستفيد منه أن ترجع للدولة، مقابل ما استفادت منه، مثل الشركات التي تستعمل مادة السكر المدعم مثلا. وحصل منها مبالغ مهمة ضخت في ميزانية الدولة. لم يسمع لك صوت حول الخيانة آنذاك. عبد الرحمان اليوسفي تمسك بقوة باللائحة الوطنية للنساء، ليمكن المرأة من الدخول للبرلمان رغم اعتراض الجميع. ولم يسمع لك صوت ولم تلصق تهمة “الخيانة” بمن كانوا يعترضون. عبد الرحمان اليوسفي، هو الذي كان ضحية للبلوكاج والانقلاب الحقيقي على إرادة المواطنين عندما حصل “الاتحاد الاشتراكي” على المرتبة الأولى بعد انتخابات 2002 فتجمع كل من حزب “العدالة والتنمية” وحزب “الاستقلال” وأحزاب أخرى وشكلوا قطبا برلمانيا ضد “الاتحاد الاشتراكي” مما دفع بالملك إلى تعيين شخصية تقنية هو إدريس جطو. لم يسمع لحامل كلمة “الخيانة” صوت آنذاك فقط، وليس موقف. هل نستدعى الحياء ليرد على من لازالت كلمة “الخيانة” لم تبرح يده لأنها عشقته عشقا مستديما. أما عبد الرحمان اليوسفي فهو غير آبه بمن يحاول التسلق فيه. إنه الجبل الشامخ في تاريخ هذا البلد. لأنه آمن بكون القافلة سارت و… أنظر إلى المرآة و…