أفرزت النتائج الرسمية للانتخابات التشريعية في تونس مشهدا سياسيا مختلفا عن ذلك الذي تمخضت عنه انتخابات 2011 ، يتميز بصعود قوى سياسية جديدة ونزول وتقهقر أخرى وتنافر مرجعيات الأحزاب التي احتلت المراكز الأولى ، مما سيجعل التحالفات المحتملة لتشكيل الحكومة المقبلة، حسب العديد من الملاحظين، "عسيرة ومؤلمة" وخياراتها "صعبة ومحدودة" ، وذلك بالنظر إلى أن الحزب الفائز بالمرتبة الأولى (نداء تونس) لم يحصل على الأغلبية المطلقة التي تؤهله للحسم في تشكيلة المجلس النيابي المقبل . وقد أظهرت هذه النتائج ، التي تم الاعلان عنها أمس الخميس، فوز حزب "نداء تونس" ، الذي تم تشكليه بعد الثورة بقيادة السياسي المخضرم الباجي قائد السبسي من ائتلاف يجمع حساسيات من الحزب الدستوري المنحل وعدد من اليساريين والنقابين لإحداث نوع من التوازن في الحياة السياسية ازاء صعود حركة النهضة خلال انتخابات 2011 ، بالمرتبة الأولى ب85 مقعدا من بين 217 مقعدا تشكل البرلمان ، وهو ما يعادل 37 في المائة من مجموع المقاعد، في حين احتلت "حركة النهضة" المرتبة الثانية ب 69 مقعدا أي ما يعادل 31 في المائة بعدما كانت تشكل القوة الأولى في المجلس الوطني التأسيسي السابق ب90 مقعدا أي بنسبة 37 في المائة. وكانت المفاجأة الكبيرة لهذه الانتخابات ، حسب الملاحظين والمتتبعين ، هي الصعود غير المتوقع لحزب "الاتحاد الوطني الحر" الذي أسسه عقب الثورة رجل الأعمال ورئيس النادي الافريقي لكرة القدم ومرشح الحزب للانتخابات الرئاسية سليم الرياحي حيث احتل المرتبة الثالثة ب16 مقعدا أي بنسبة 7.8 في المائة ، وهو ما يماثل ويذكر بظاهرة "العريضة الشعبية" بقيادة محمد الهاشمي الحامدي التي كانت قد حققت حضورا مفاجئا خلال انتخابات المجلس الوطني التأسيسي سنة 2011 باحتلالها المرتبة الثالثة وحصولها على 19 مقعد ، بعد "حركة النهضة" وحزب "المؤتمر من اجل الجمهورية"، خلافا لكل التوقعات حينها ، بالنظر الى انها كانت قائمة انتخابية مغمورة مشكلة من مرشحين مستقلين. كما أفرزت نتائج الاقتراع التشريعي الجديد حضورا "محترما" لليسار ممثلا في" الجبهة الشعبية" التي تضم 11 حزبا يساريا وقوميا ، والتي حصلت على المرتبة الرابعة ب15 مقعدا، مما سيؤهلها لأن تكون "رقما مهما" في معادلة تشكيل الحكومة المقبلة، علاوة على حزب" آفاق" ذي التوجه الليبرالي الذي تأسس بعد الثورة ايضا وحصل على تسعة مقاعد محتلا بذلك الصف الخامس ، وهو ما سيجعله ، حسب متتبعين للشأن التونسي، "يضطلع بدور رئيسي" في تشكيلة الحكومة المقبلة. في المقابل، عرف حليفا "حركة النهضة" في الحكم سابقا "المؤتمر من أجل الجمهورية" بقيادة المنصف المرزوقي و"التكتل" بزعامة مصطفى بن جعفر ، وهي الأحزاب الثلاثة التي اقتسمت على التوالي الحكم بعد انتخابات 2011 بتقلدها على التوالي لرئاسة الحكومة والجمهورية والمجلس التأسيسي، تقهقرا كبيرا حيث لم يحصل "المؤتمر" سوى على أربعة مقاعد بعد أن كان يشكل القوة الثانية خلال انتخابات 2011 ب30 مقعد ، بينما لم يحصل "التكتل" سوى على مقعد يتيم بعد أن كان بحوزته 12 مقعدا في المجلس السابق. نفس المصير عرفه "الحزب الجمهوري" ، وهو امتداد للحزب الديمقراطي التقدمي بزعامة نجيب الشابي، أحد الوجوه النضالية المعروفة التي ناهضت الرئيس المخلوع بن علي بشراسة أو في مرحلة ما بعد الثورة، حيث لم يحصل سوى على مقعد واحد ووحيد، مما سيؤثر بلا شك على حضوره السياسي، بينما حصل كل من حزب "المبادرة" المنحدر من التجمع المنحل و"التيار الديمقراطي" و"حركة الشعب" على ثلاثة مقاعد (وهي أحزاب صغرى لا وزن لها على الخارطة السياسية للبلاد). وبالنظر إلى أحكام الدستور، فإن رئيس الجمهورية يكلف مرشح الحزب الفائز بأغلب المقاعد بتشكيل الحكومة، وبما أن "نداء تونس" لم يفز بالأغلبية المطلقة للأصوات (109 من أصل 217) فإنه سيضطر للتحالف مع أحزاب ممثلة داخل البرلمان للتصديق على تشكيل حكومتها. وهي المهمة التي تبدو ، حسب العديد من الملاحظين، "عسيرة ومؤلمة" في ظل النتائج التي تمخضت عنها هذه الانتخابات حيث أن الأحزاب التي احتلت الصفوف الموالية ل"نداء تونس" إما أنها لا تتقاسم معه خياراته الإديولوجية، كما هو الشأن بالنسبة ل"حركة النهضة" ذات التوجه الإسلامي ، أو برنامجه الانتخابي كما هو الحال بالنسبة "للجبهة الشعبية" ذات التوجه الاشتراكي ، أو لا تجمعه وإياها "علاقة مودة" كحزب "الاتحاد الوطني الحر " الذي يقوده سليم الرياحي المنافس للباجي قائد السبسي في الانتخابات الرئاسية ، في حين لن يكون بمقدور الأحزاب المتبقية الأخرى ضمان أغلبية مريحة للنداء لعدم حصولها إلا على تمثيل محدود في البرلمان. هذا المشهد المبلقن والمتنافر هو ما جعل الملاحظين يؤكدون أن عملية تشكيل أغلبية مريحة ستكون أشبه ب"ولادة قيصرية" يتهددها الموت ، أو ب"تجرع العلقم" على مرارته، وهو ما يعني أن حركة "نداء تونس" ستكون أمام هامش اختيار محدود، سيضطرها لتنازلات "صعبة " إن هي أرادت قيادة الحكم خلال السنوات الخمس المقبلة، فالاكتفاء بالحلفاء الاقربين لا يضمن لها أغلبية مريحة ، واللجوء الى حركة "النهضة" خيار " مر وغير طبيعي". لذلك ففي ظل هذه النتائج يقول مراقبون إن هناك ثلاثة سيناريوهات لتشكيل الحكومة القادمة، أولها تحالف "نداء تونس" مع أحزاب أخرى قريبة منه مثل حزب "آفاق" الليبرالي، و"الاتحاد الوطني الحر" بقيادة رجل الأعمال سليم الرياحي على الرغم من خلافاتهما التي قد تبددها مفاوضات بين الجانبين ، بل حتى مع الجبهة الشعبية ( أقصى اليسار) التي قد يدفعها "عداؤها الإديولوجي" مع "النهضة " الى المشاركة في الحكم ، خصوصا وأن "الجبهة" كانت الى جانب "نداء تونس" في المعارضة المناهضة لحكم الترويكا خلال السنوات الثلاثة الماضية. ويتمثل السيناريو الثاني في حكومة "وحدة وطنية" قد تشمل "حركة النهضة"، وهو خيار سيكون "اضطراريا" في حالة عدم تمكن حزب "نداء تونس" من تشكيل أغلبية مريحة ، بينما يتمثل الثالث في أن تلتقي "حركة النهضة" مع جل الأحزاب الفائزة بمقاعد ما عدا "نداء تونس" إذا فشل هذا الاخير في تشكيل الأغلبية ، وهذا ايضا سيناريو "جد مستبعد وضعيف الاحتمال" حسب نفس الملاحظين . لقد سارعت حركة "نداء تونس" بعيد الاعلان عن النتائج الى التعهد بالتمسك ب"نهج الحوار والتوافق كآلية ضرورية لإنجاح استحقاقات المرحلة والانتقال من الوضع المؤقت الى وضع الشرعية والاستقرار"، في وقت أكدت فيه "حركة النهضة" على حاجة تونس في المرحلة القادمة إلى مزيد " من التوافق الوطني الواسع والتوازن في المشهد السياسي، بعيدا عن نوازع الهيمنة والإقصاء". فهل يقتسم الغريمان السياسيان السلطة بينهما أم يستمر الصراع كما كان؟ الايام المقبلة كفيلة بالاجابة عن هذا السؤال. و.م.ع