عبر عبد الإله بنكيران ، رئيس الحكومة ، عن تشبثه بعتبة 6 في المائة مع أكبر بقية في الانتخابات العامة لمجلس النواب المرتقبة في أكتوبر المقبل كحد أدنى، بعدما كان مسؤول في حزبه قد عبر عن رغبة الحزب الإسلامي في رفع تلك العتبة إلى 10 في المائة. وباستثناء حزب الاستقلال، فإن كل الأحزاب السياسية لا تشارك حزب العدالة والتنمية الرأي فيما يخص رفع العتبة إلى 10 في المائة. وإذا كانت أحزاب التجمع الوطني للأحرار والأصالة والمعاصرة والحركة الشعبية ترغب في الإبقاء على العتبة في حدود 6 في المائة، فإن أحزاب الاتحاد الاشتراكي والتقدم والاشتراكية واليسار الاشتراكي الموحد وأحزاب صغيرة ترغب في تخفيض هذه العتبة إلى 3 في المائة، ومنها من تطرح التخلي عن العتبة وأكبر بقية التي تخدم مصالح الأحزاب التي ترشحها التوقعات للفوز بمقاعد كثيرة في الانتخابات العامة لمجلس النواب القادمة، وبالأخص منها العدالة والتنمية وحزب الاستقلال والأصالة والمعاصرة، وتهدد البقية بالتقزيم أو الإقصاء في ضوء التطورات الجارية وما كشفت عنه من اختلال للتوازنات التي كانت قائمة من قبل. وتختفي خلف الصراع حول العتبة معركة غير مسبوقة لإعادة تشكيل المشهد الحزبي في البلاد وخلق توازنات سياسية شاملة سيكون لها بالغ الأثر على مستقبل الحياة السياسية وعلى إمكان تطور بناء ديمقراطي في إطار الاستقرار، بل وفي إطار الحل الوسط التاريخي الذي ظل قائما مند عقود من الزمن وجعل التفاوض والتوافق ممكنين في مراحل مختلفة لحل أو تجاوز النزاعات. ذلك أن طرح حزب العدالة والتنمية لرفع العتبة إلى 10 في المائة مع أكبر بقية في البداية يعكس طموحا جارفا للظفر بعدد أكبر من المقاعد النيابية، وحتى الحصول على أغلبية مقاعد مجلس النواب المقبل، للتمكن من فرض هيمنة شاملة على الحياة السياسية في المغرب وتجاوز الوضعية الحالية بتوازناتها التي فرضت عليه تحالفات قبلها على مضض، وكذلك فرض أمر واقع يتيح له اختيار التحالفات التي يريد بالطريقة التي يريد رغم أنف الجميع، على أساس ميزان قوى في المؤسسات والشارع يمكن له الاعتداد به في كل وقت وحين. وقد فتحت نتائج انتخابات 4 شتنبر الماضي ومعركة كسر العظام التي خاضها مع النقابات والحركات الاحتجاجية المختلفة شهيته لتحقيق المزيد من المكاسب الانتخابية، وهو يراهن على تحقيق اختراق قوي للبادية التي مثلت نقطة ضعفه عبر استعمال واستغلال الآليات الحزبية والحكومية على حد سواء، ومن بينها صناديق الصدقات والمؤسسات ذات الطابع الاجتماعي التي وضع على رأسها إسلاميون بطرق أقل ما يقال عنها أنها “مخدومة” وتبتعد عن الحد الأدنى من الأخلاق. إذ بات يرى، كما تدل على ذلك تصريحات زعيمه وقيادييه وسلوكه اليومي في مواجهة الخصوم السياسيين والنقابات والشارع، أنه طوع المغاربة وجعلهم ملك اليد بواسطة احتلال الواجهات وخطاب شعبوي يستثير رد الفعل الهوياتي وأنه يمكن له التعويل عليهم لمنحه فوزا ساحقا يواجه به الدولة والخصوم والمنافسين على حد سواء، ويقنع الخارج أن لا خيار أمامه غير التعامل معه، وهنا مربط الفرس، كما يقال في اللغة القريشية. ويشير ترشيح بنكيران لنفسه لولاية جديدة ، كما أعلن عن ذلك في لقائه الصحفي الخميس الماضي، ببيت نومه وليس في مقر عمله، إلى شروعه في معركة استرجاع كرسيه الحكومي بالرهان على خلق ميزان قوى وليس على التعيين الذي ورد من باب الإحالة على مقتضى دستوري. وفي المقابل، يبدو أن حزب الاستقلال، على الخصوص، وحزب الأصالة والمعاصرة يقاومان بكل الوسائل المتاحة لهما، كل من موقعه وحساباته، هذا التوجه الإسلاموي إلى الهيمنة المطلقة على المشهد الحزبي والسياسي للحفاظ على مكانة في إطار الخريطة السياسية المقبلة وعلى القدرة على التأثير في ميزان القوى وعلى موقع تفاوضي بمنأى عن الضعف والذيلية. والواضح أن الحزبين، رغم اختلاف مساراتهما وتطلعاتهما، يشتغلان بأفق الحد من الخطورة القصوى التي يمكن أن تترتب عن تغول العدالة والتنمية وسعيه إلى خلق توازنات من شأنها تفجير تناقضات غير مسبوقة في المغرب وتعريضه لتهديدات نعتقد اليوم أننا غير معنيين بها.. ومن هذا المنطلق يبدو أن تعاملهما مع العتبة، الذي يكتسي طابع التحدي، يتم من منطلق التأكيد أنهما منافسين قادمين لن يتركا للحزب الإسلاموي المجال ليصول ويجول فيه كما يشاء وكما يعتقد. أما الأحزاب الأخرى، فإنها ترى في طرح رفع العتبة، وحتى في الإبقاء عليها في 6 في المائة، خطرا عليها وعلى وجودها وعلى التعددية بالمغرب كما استمرت في مغرب ما بعد الاستقلال التي منع فيها الحزب الوحيد. فمن غير المتوقع اليوم أن تتجاوز العتبة أربعة أحزاب إذا بقيت في حدود 6 في المائة، هي العدالة والتنمية وحزب الاستقلال والأصالة والمعاصرة والتجمع الوطني للأحرار، ويمكن أن يتقلص العدد إلى ثلاثة في أحسن الأحوال أو حتى إثنين إذا ما رفعت العتبة إلى 10 في المائة. وهذا ما يعني وضعا جديدا لا يمكن تبريره بالعقلنة أو ما شابه ذلك مما يساق لدر الرماد في العيون، لأن المغرب يبقى في مرحلة انتقال متأثرة، إلى هذا الحد أو ذاك، بمحيط يمور وتتغلب فيه رهانات محاربة الإرهاب الظلامي والحفاظ على الاستقرار وتجنب خطر انهيار الدول والأوطان، واستبعاد ذلك أو تغييبه لا يمكن أن يكون دليلا واعيا على سوء تقدير أو سوء نية. فالمغرب في حاجة إلى تعددياته كلها منصهرة في بوتقة واحدة: بوتقة الوطن والوطنية وليس لتحجيمها بأي دعوى من الدعاوي. والبين اليوم أن الاتحاد الاشتراكي، في الحالة المأساوية التي يوجد عليها بسبب العبث، مهدد بالتقلص إلى مستوى حزب صغير في أحسن الأحوال، في حال الاستعانة بالأعيان، وحتى بالخروج من مجلس النواب ليترك مقاعده للعدالة والتنمية إذا ما تم الاحتفاظ على عتبة 6 في المائة مع أكبر بقية، وكان قاب قوسين أو أدنى من الخروج خاوي الوفاض في انتخابات 4 شتنبر الجماعية والجهوية، حيث خسر خسارات مدوية في معاقله التاريخية وخسر وزنه النقابي وتحول من حزب الفئات الوسطى والمدن الكبرى إلى حزب قروي . ويواجه حزب التقدم والاشتراكية غدر حلفائه في الحكومة الذين يدافعون عن عتبة يعرفون جيدا أن نتيجتها الحتمية إلغاء تمثيليته في مجلس النواب. حيث أن هذا الحزب، ورغم بعض المكاسب التي حققها في السنوات الأخيرة، قد يجد نفسه عاجزا عن بلوغ العتبة أمام آلة حلفائه في الحكومة التي ستكون متحررة من كل التزام وضغط ومغلبة للمصلحة الحزبية بشكل غير مسبوق محو كل الآخرين وخلق ميزان قوى جديد. ويواجه اليسار الاشتراكي الموحد، الذي عاد للمشاركة في الانتخابات، ومعه البديل الديمقراطي المنشق عن الاتحاد الاشتراكي وبقية أحزاب اليسار خطر الخروج بخقي حنين والبقاء في الهامش او الاندثار بعد رحيل قياداتها الشائخة التي لا يبدو ان لها رهان ترغب في تحقيقه غير رهان التأكيد للذوات المريضة أنها موجودة ولها حواريين. هذا ما يعني أن الانتخابات المقبلة ستكون، إذا ما تم رفع العتبة أو حتى الإبقاء عليها في حدود 6 في المائة، انتخابات محو اليسار من خريطة الأحزاب الممثلة في مجلس النواب، مع ما يترتب على ذلك ليس فقط فيما يتعلق بالمشاركة في حكومة قادمة يغري بها بنكيران لتحييد قوى من أجل التصدي لقوى أخرى يعتبرها منافسة أساسية ومهددة لمشروعه، بل وأيضا على مستوى التوفر على إمكانيات الاستمرار والصمود إلى موعد انتخابي آخر. وهو ما يعني كذلك تفقير التعددية السياسية بالبلاد وتحويل الصراع السياسي بين من يعتبرون أنفسهم فيلة صراع مفتوحا على أسوأ الاحتمالات، لأنه سيتجه إلى العنف اللفظي الذي يؤدي لدى التطرف في استعماله وغياب الرادع أو القوى التي يمكن ان تفك الاشتباك وترجع إلى فضيلة الاعتدال إلى الاصطدام المادي الذي تم تجنبه لحد الآن وتعميق اليأس والكفر بالديمقراطية ومؤسساتها.