لا يخفى عن المهتمين بالشأن الدولي أن عناصر الانقسام داخل المجتمع السوداني متوفرة، فالبنية القبلية حاضرة بقوة، والانتماء العرقي كان ولازال أحد محددات الولاء والصراع بين الرحل وأهل الزراعة، وهو أمر لم يتوقف أبدا، وأدى إلى الاقتتال بين المزارعين والرحل، فحين تجتاح آلاف رؤوس الماشية حقول زراعية ما الذي يبقى منها، والصراع على نقط الماء لا يتوقف أبدا نظرا، لصعوبة توفره في كل مناطق جغرافية بشساعة كبيرة، يضاف إلى ذلك تعدد الطوائف الدينية، والانتمائات المذهبية، كل ذلك يمثل جمرا تحت الرماد، تخرج نيرانه مرارا للعلن، ليحرق جزء من السودان، ويؤدي إلى انفصال كبير، وزاد غباء السياسيين هذه العوامل سرعة الاشتعال، فبدل الانشغال ببناء المشترك، والعمل على تقوية الدولة الوطنية، عملوا على زيادة رصيد هذه الانقسامات، وكان اخر انتاجهم تعدد المؤسسات الحاملة للسلاح. فمنذ الإطاحة بحكومة عمر البشير، ظهرت شخصيتان في الإعلام، وهي تتقاسم السلطة في السودان وتحضر المنصات الجنرال عبد الفتاح برهان كرئيس للدولة، ونائبه محمد حمدان داغالو المعروف بحميدتي، وإذا كان الجيش مكون من حوالي 200 ألف جندي تحت قيادة البرهان، فإن حميدتي يقود قوات التدخل السريع المكونة من 100 ألف جندي من مليشيات جنجويد المتهمة سابقا بمجازر إبادة في دارفور. وهكذا تم اقتسام كل شيئ في السودان ، فإذا كان البرهان يستمد قوته المالية من إدارته لشركات تتبع للدولة، أي بمعنى جيش يتحكم في الاقتصاد، والتجارة، وقوت وطعام الناس ويتحكم في شركتي الماء والكهرباء، فمنطق الصراع وغياب الدولة الوطنية، جعل أيضا حميدتي يستمد قوته من مناجم الذهب، التي يتقاسمها مع شركات فاغنر الروسية التي مكنها من السيطرة على هذه المناجم، وهو ما يفسر دعم روسيا والإمارات له، كما أنه يتمتع بثروة هائلة من الإبل، ربما الأولى في إفريقيا، وبسبب وجود قوته العسكرية على كثير من مناطق الحدود، يحصل أيضا على أموال عبر ما يشبه الجمارك، وهو ريع في ظل الدولة الهشة. يبدو أن أمريكا تقف إلى جانب البرهان، وروسيا تقف إلى جانب حميدتي، هذا لا يعني أكثر من شبه اتفاق بين الأطراف الدولية لتحقيق مصالح ما، من خلال إنهاك الطرفين. يحتج البرهان على أن منطق دعم الديمقراطية يمر عبر إدماج قوات التدخل السريع في القوات المسلحة السودانية بقيادته، كشرط للمصالحة، بينما يصر حميدتي تحت شعار أيضا من أجل دعم الديمقراطية على تسليم السلطة لحركة التغيير اليسارية، واستبعاد القوى الأخرى بحجة التطرف، وكلا الطرفين يسعى لتقوية سلطته العسكرية، ليبقى السودان تحت رحمته وكلا مبرراتهما باطلة تستهدف عزل القوى السياسية الحية في المجتمع السوداني، الذي مهما قيل يبقى من أكثر الشعوب العربية ثقافة ولطفا وسعيا للسلم والمسالمة. إن الوضع الجيوستراتيجي للسودان يزيد تعقيد الأمور، فمخاوف تمدد الصراع لخارج السودان، سيؤثر حتما على خطوط النفط القادمة من جنوب السودان، وربما تتضرر بسبب الحرب بين الجنرالات، بالإضافة إلى علاقات حميدتي مع الدولة المجاورة تشاد، تجعل الصراع قابل إلى الامتداد و الاشتعال هناك. إن الزلزال السياسي العسكري الذي يضرب السودان سيزيد من الفوضى في منطقة كبيرة، تمتد إلى ليبيا ودول جنوب الصحراء، وتونس ولاشك مالي والجزائر، وتمتد إلى إتيوبيا ومصر، وباختصار ستكون لها انعكاسات على أفريقيا عموماً، وتدخل الدول بدعم فريق ضد الآخر، سيجعلها حرب نعرف بدايتها ولكن لا أحد يعرف نهايتها وحجم أضرارها وعواقبها، أنها لحظة شبيهة بسقوط سياد بري في الصومال، وشبيهة بسقوط القذافي في ليبيا. هناك رسالة واحدة التي تبعث للشعب السوداني وهي أن بدء إجلاء الجاليات إلى بلدانهم، وكذلك آلاف المواطنين إلى دول الجوار، يفيد أن حرب السودان هي في بدايتها، ولا تلوح نهايتها في الأفق، وأن نفق الحرب الأهلية إقترب وخراب العمران أوشك إلا أن يتعقل قادة السودان العسكريين ويفضلون بقاء بلدهم من حرصهم على كراسي جاثمة على خراب.