التدخل السافر للبرلمان الأوروبي في الشؤون الداخلية للمغرب عبر توظيف ورقة حقوق الإنسان بناء على ادعاءات باطلة، قوبل باستياء كبير من لدن العديد من النخب الثقافية والسياسية الفرنسية التي دعت إلى التوقف عن ممارسة الوصاية على دولة ذات سيادة، والكف عن المغالطات والادعاءات التي تروج لها جهات مكشوفة بغاية النيل من سمعة المغرب وتبخيس مساره الديمقراطي والتنموي. وترفض ذات النخب ومن ضمنها النائب عن التجمع الوطني الفرنسي، تييري مارياني، تسييس ورقة حقوق الإنسان وتوظيفها وفق أجندات تخدم جهات معينة، كما ترفض سياسة الكيل بمكيالين في سياق الهجوم السياسي المنحاز على كل ما هو مشرق في مسيرة المغرب الديمقراطية والحقوقية. ولم يستبعد بعض الساسة والإعلاميين أن تكون فرنسا بأجهزتها الحكومية والتشريعية وراء النزوة البرلمانية الأوروبية. ففي الكثير من المواقف، تبدو فرنسا ميالة نحو التوتر لا نحو الانفراج، نحو المشاكل لا نحو الحلول، حيث لا تكاد تنتهي أزمة حتى يطفو على السطح توتر جديد تتغذى عليه الصحافة الفرنسية من جرائد وقنوات تتحامل بلغة قذرة وبذيئة على المغرب ورموزه. فهاتيك من حملات مغرضة في برامج سياسية تلفزيونية، ومن نشرات لقنوات عمومية وفي مقدمتها (فرانس 24 والقناة الأولى ت.إف1) وهاتيك من مقالات مغلفة بعلاوات سخية، لا تخرج عن سياق العداء والحقد على المغرب وعلى تحولاته السياسية في مجال الترسيخ الديمقراطي والحريات العامة. مواقف فرنسا المتأرجحة بين التوتر والانفراج وفق مزاج الرئيس إمانويل ماكرون، انعكست في الكثير من القضايا الثنائية، منها على الخصوص التطورات التي عرفتها قضية الصحراء المغربية في سياق قرار العديد من الدول فتح قنصليات عامة لها بكل من العيون والداخلة، بما في ذلك الولاياتالمتحدةالأمريكية، حيث غياب فرنسا عن هذه الدينامية الدولية، يطرح أكثر من سؤال بشأن ترددها المريب، وتبنيها الحياد السلبي في قضية وحدتنا الترابية.
وما من شك في ظل المناوشات السياسية الفرنسية التي باض على إثرها البرلمان الأوروبي قراره المزاجي السخيف، أن مشاعر الثقة بين فرنسا والمغرب آخذة في الاهتزاز بسبب تخلي الرئيس الفرنسي الحالي عن المحددات التقليدية للسياسة الفرنسية التي رسمها الجنرال شارل دوغول وأرسى قواعدها من بعده الرئيس جاك شيراك. وهي سياسة جعلت من المغرب نقطة محورية في علاقة فرنسا ببلدان المغرب العربي والشرق الأوسط، حيث المغرب اضطلع على امتداد عقود بدور تواصلي قوي بين فرنسا والوطن العربي. وتوظيف أعضاء البرلمان الأوروبي بإيعاز من نظرائهم الفرنسيين، ورقة حقوق الإنسان بناء على ادعاءات باطلة، ودعوتهم المغرب إلى "احترام حرية التعبير وحرية الإعلام، وضمان محاكمات عادلة للصحافيين المعتقلين"، ينمّان عن تدخل سافر في الشؤون الداخلية للمغرب سيما وأن المحاكمات القضائية همّت أناسا متابعين في قضايا الحق العام من قبيل الاتجار بالبشر، والاعتداء الجنسي، واستغلال هشاشة الأشخاص، وهي أفعال تُجرّمها جميع قوانين العالم. قرار البرلمان الأوربي يندرج أيضا في سياق الحملات الممنهجة التي تستهدف المغاربة والعرب بشكل عام تحت غطاء حقوق الإنسان والحريات العامة، بعدما تم استهدافهم فوق التراب الأوروبي في حرية الملبس وحرية الاعتقاد وحرية الأكل (اللحوم الحلال). وكل ذلك من أجل تكريس مظاهر التحقير للعرب وإنكار حقهم في إثبات ذواتهم من خلال جغرافيا عربية تبني وجودهم على أساس التميز العربي. وما يخشاه المغاربة اليوم هو أن يتحول العداء الأوروبي للمغرب من منهج شعبوي متطرف إلى منظومة فكرية قد تتلاقى حولها نخب فكرية وسياسية تجمع في صفوفها اليمينيين والليبراليين والعلمانيين وحتى الاشتراكيين. البرلمانيون الأوروبيون بهكذا سلوك لا يضعون في حسبانهم صبر المغرب الذي قد يفاجئهم، إذا استدعت الضرورة، بإدارة ظهره للاتحاد الأوروبي باتجاه آسيا والولاياتالمتحدة ودول صديقة أخرى مثل بريطانيا وغيرها. دول ترى في المغرب قبلة ملائمة لنسيجها الاقتصادي والسياسي على اعتبار موقعه الإستراتيجي كبوابة لإفريقيا وروابطه المتينة مع دول الشرق الأوسط. فعلى الفرق البرلمانية الأوروبية باختلاف توجهاتها أن تدقق حساباتها فيما يخص عمق العلاقات التاريخية بين المغرب والاتحاد الأوروبي والتي اتسمت على مر الأعوام بتداخل البعد السياسي والاقتصادي بآخر إنساني ضمن نسيج من الامتيازات والمصالح المشتركة. مصالح أدت إلى رفع حجم المبادلات التجارية بثلاثة أضعاف إلى 45 مليار أورو سنة 2021. وإذا كان الاتحاد الأوروبي لا يقبل بأن يكون لواشنطن وبكين حضور قوي في المغرب، والمحافظة عليه كشريك أساسي في محاربة الهجرة السرية والإرهاب والمخدرات، فعليه أن يراجع سياسته باتجاه شراكة اقتصادية قاعدتها "رابح رابح"، وشراكة سياسية تقوم على مراعاة المصالح المغربية واحترام خصوصيته والابتعاد عن حشر أنفه في شؤونه الداخلية. ومن هنا فإن الإبقاء على مصالح أوروبا الاقتصادية والثقافية والأمنية، يمر عبر الاحترام والتقدير المتبادلين، حيث الكثير من المؤاخذات السياسية المغربية تصب في اتجاه المعاملة الاستعلائية الطاغية في الخطاب الأوروبي، وهي معاملة تُغيب البُعد الإنساني وتقوى الشعور لدى المغاربة بأنهم مستهدفون. وحتى هذا التاريخ، فإن التدافع الأمريكي نحو المغرب في المجالات السياسية (الاعتراف بمغربية الصحراء) والاقتصادية (اتفاقية التبادل الحر) والأمنية (التعاون في مكافحة الإرهاب)، لا يجب أن يثير مخاوف الأوروبيين من أن تنسحب الرباط من الخطّ الأوروبي، ذلك أن متانة الروابط بين الاتحاد الأوروبي والمغرب هي اليوم ضرورة إستراتيجية تمليها مصلحة الطرفين وأيضا شروط الأمن بمنطقة يتهددها شبح التوتر وعدم الاستقرار.