كثيرا ما نتوقف بشيء من الروية عند أعضاء الجسد نتقلب نشاطها ونتمعن في وظائفها وقدرتها على اختزال كمال الجسم وتوازنه وضمان استمرارية الإنسان.. وكثيرا ما تحظى الأعضاء الداخلية كالقلب والكبد وغيرهما بالسبق من حيث الأهمية الوظيفية، وكأن للأعضاء الأخرى ومن بينها القدم دور ثانوي تكميلي يقتصر فقط على تلميع الصورة العامة للجسد وحفظه من عوامل الزوال التي تهدده. خطأ.. خطأ.. فالقدم هي العضو الوحيد الذي مكننا من اكتشاف الكثير من الأمصار قبل ترويض الحصان والبعير كوسيلة للتنقل وقضاء المآرب. وصُنفت عند الرجال كرمز للقوة والإقدام وركوب المخاطر، وعند النساء كعنوان للجمال والنعومة يستوجب تزيينها بالحناء والخلاخيل والمجوهرات لإضافة سحرها إلى كمال الجسم. وإذا كانت وظيفة القدم تتجلى في مظهرها الطبيعي في الارتكاز والتحرك والمشي والجري وغير ذلك من الحركات التي جُبلت عليها، فإنها تبقى مع ذلك حبلى بالعديد من الرموز التي ترسخت في أذهان المجتمعات البشرية حيث تُستخدم في كثير من الأحيان لإبراز الكبرياء كوضع الساق على الساق مع هز القدم، وفي التفكير حيث يقال "مُخه في قدمه" وفي البطش "ضرب الأرض بقدمه" وفي الثبات والرزانة "قدماه على الأرض" وفي ركوب المخاطر "المقدام" وغير ذلك من الأوصاف المقرونة في معناها الحقيقي وحتى المجازي بالقدم. وتسير بنا رحلة القدم إلى حين أصبحت موردا أساسيا للرزق مثل قدم محركي أنوال النسيج ودواليب الأواني الفخارية والراقصات في الأفراح وراقصات البالي إلى أقدام سعيد عويطة ونوال المتوكل التي رفعت راية المغرب خفاقة في سماء لوس أنجلس. ومات توفيق الحكيم وترك مقولته الحكيمة "ذهب عصر القلم وجاء عصر القدم". وما لبث أن رد عليه المغاربة مازحين : "إلى ما جابها القلم يجيبها القدم". ولا أظن أن المقولتين معا تتحدثان عن القدم بما هي رمز للجمال والنعومة الأنثوية، أو عن تلك التي تجعل منها الراقصات نقطة ارتكاز أساسية للتمايل وتحريك البطن، وإنما عن تلك التي تفرد لها الصحافة والقنوات الإذاعية والتلفزية كل يوم مساحات واسعة للحديث عن نجومية أصحابها وماركة أحذيتهم ولباسهم وهواياتهم.. حتى إن بعضها في بلدان عديدة لا تتردد في توشيح صفحاتها بسواد حالك إذا أصيب أحدهم بتشنج أو كسر قد يبعده عن الملاعب ليدخل البلد في حداد طويل، وكأنه فقد علما من أعلام الوطن أو رمزا من رموزه. فالقدم التي يقصدها المغاربة اليوم، وفي قمة عطاء المنتخب المغربي في مونديال قطر 2022، تنطق بعبقرية إبداعية أبلغ من عبقرية الرسام أو الشاعر، حيث صاحبها يقرن اسمه بكبار المبدعين العالميين، وحيث الغالبية العظمى من ساكنة المغرب والوطن العربي، تقدم عبقرية زياش وحكيمي والمزراوي على عبقرية موزار أوعبقرية العروي والجابري. فهم"المبدعون" و"المنقذون"، ومصدر المجد والفرجة في آن واحد.. وباختصار شديد، هم أناس من كوكب آخر ومن عيار يجعلنا نسلّم بأن الإبداع والعبقرية ليسا حكرا على القلم وحده، حيث القدم لها هي الأخرى مجالاتها الإبداعية. ومن هنا لا أرى فرقا عميقا بين اللاعب والصحفي، فهما معا يتاجران، واحد بالقلم يحمل سلعته في دماغه ويعرضها منشورة على كمشة من القراء التواقين إلى المعرفة والاطلاع، والآخر بالقدم يعرض سلعته (الفرجة) على جمهور العشاق وأعدادهم بمئات الملايين..كلاهما على باب الله يبيع ويكسب..سلعة اللاعب هي هي، الفرجة المرغوبة، وسلعة الصحفي الكاسدة تتغير وتتبدل مع ما تمليه اللحظة الإعلامية.. وقد تكسب القدم في لحظة واحدة ما لن يكسبه القلم طوال العمر، بل يظل جميع إعلاميينا يُبدعون ويبيعون ولن يكسبوا في مئة سنة ما يكسبه لاعب بحذائه في سنة واحدة.. ومع ذلك يقيم بعض الصحفيين ومعهم بعض المثقفين الدنيا، إن حدث وأن فاز أحدهم بجائزة قدرها 30 ألف درهم..فهم يستكثرون على بعضهم مبالغ تافهة، بينما يتقاضى اللاعب عشرات أضعافها في 90 دقيقة. اختلال الموازين بين الاثنين لا يبدو سوى في نوعية البضاعة وربما في ساعات العمل أيضا حيث القدم مقيدة بأوقات للعطاء تخلد بعدها للراحة، بينما القلم كالقلب لا وقت ولا عطلة له. وما يفرق بينهما بصورة أكثر جلاء، كون تحريك القدم عمره قصير ومرهون بالحيوية والفتوة والشباب، ولذلك تسعى القدم إلى أن تحقق لنفسها وبسرعة، المجد والمال والشهرة، مسخرة في ذلك القلم لخدمتها راضيا مرضيا، ما دام رواج بضاعته اليومية أو كسادها يتوقفان على ما سيصدره من أوصاف وتحاليل تمجد هذا القدم أو ذاك، وتجعل من مداعبي الكرة عباقرة وأفذاذا فوق العادة. قوة القدم تكمن أيضا في قدرتها على هز المشاعر واجتذابها.. فمونديال قطر عبأ من المتتبعين من مختلف الأعمار ومن مختلف المشارب والجنسيات والثقافات ورجالات السياسة والاقتصاد والأعمال والفن، ما لا يستطيع أي تجمع فكري أو سياسي أو حتى اقتصادي تعبئته في كوكب الأرض، مهما كانت أهميته. ولا يوجد شأن من شؤون الحياة يستطيع أن يستولي على اهتمام مئات الملايين من الأشخاص في لحظة واحدة مثل لعبة كرة القدم، التي تخلق جوا من الإثارة الجماعية تمتزج فيه متعة الفرجة ونشوة الفوز وتغيب معه إحباطات الحياة اليومية. ولذلك مات الأديب المصري توفيق الحكيم وبقيت قولته الشهيرة "ذهب عصر القلم وجاء عصر القدم".. فمزيدا من العطاء ومزيدا من الفرجة والإمتاع يا أسود القدم. معكم سينشد الوطن العربي من أقصاه إلى أقصاه "منبت الأحرار.. للعلا عنوان".