"قوم أينما سقطوا لقطوا، وحينما انخرطوا خرطوا": مقولة الحريري في مقاماته الأدبية الهزلية قبل عشرة قرون تنطبق عمليا وبشكل كبير على الصينيين في فرنسا الذين تضاعف عددهم في العقد الأخير ليتجاوز 500 ألف شخص نصفهم يعيش في باريس وضواحيها. فنفوذ الصين أو ما يطلق عليها اليوم "القوة الناعمة"، حاضر بشكل ملفت في كل شبر من التراب الباريسي بما في ذلك المحلات التجارية والمطاعم والأسواق الأسبوعية والمقاهي وحتى الأندية الليلية وأماكن الترفيه. مصباح بما يعادل أورو، راديو بأقل من ثلاثة أوروات، باقة زهوربلاستيكية بنصف أورو، خمس ولاعات سجائر بثمن يقل عن سعر فنجان قهوة، ملابس، عطور، أحذية، أقلام، أجهزة كهربائية مقلدة ومزورة، أواني طبخ، ملاعق. مواد متنافرة الاستعمال مفروشة في الأسواق وسط تزاحم المتبضعين الذين يشترون بتلهف كل ما يصادفونه من مستلزمات مستوردة من شركات تجارية تعمل وفق قاعدة "استخدام مرة واحدة". مستلزمات يعرفون أنها رديئة الجودة، قصيرة العمر لكنها جاذبة بلمساتها وحبكتها الآسيوية الطريفة. ظاهرة الغزو التجاري الصيني ليست استثنائية في العاصمة باريس حيث الكثير من المدن العواصم الاقتصادية العالمية تشكو من هذا الغزو الذي لم يعد يكتفي باللوازم المنزلية والمنتجات الكهربائية المختلفة، بل شمل صناعات أخرى مثل الملابس والأقمشة والنسيج والأحذية وغيرها من المنتجات التي تتفرد فيها الصين بعبقرية كبيرة في استنساخها لعرضها بأثمنة في المتناول تشكل ضربة موجعة للمصانع المحلية التي لا تقوى على المنافسة والاستمرار. ويتخذ الغزو التجاري الصيني طابعا متميزا في باريس وضواحيها التي يقطنها ما يزيد عن 200 ألف صيني غالبيتهم العظمى تشتغل في قطاع التجارة وتُغرق الأسواق الفرنسية بعدد هائل من المنتجات الواردة من مخازن عملاقة مشيدة على السفن الراسية بالسواحل القريبة من مناطق البلدان المجاورة. ولكون أسعارها متدنية للغاية، وأصحابها لهم من الطرق والوسائل ما يجعلها تمر من قنوات سرية لا تخضع لأجهزة المراقبة، فإن هذه السلع وخاصة منها الأحذية والنسيج والأقمشة، تلقى إقبالا متزايدا في الأوساط التجارية الفرنسية نفسها التي تعيد بيعها بأثمنة مرتفعة بعد أن تُخفي علامة "من صنع صيني" الشهيرة لدى المستهلك برداءة جودتها. وينتج عن ذلك أن يقع المستهلك الفرنسي ضحية عمليتين احتياليتين : الثمن المضاعف والمنتوج المعروض بعلامات وماركات أخرى وهي في الأصل صينية. والعبقرية الإبداعية الصينية ميالة إلى تلبية رغبات المستهلك الفرنسي والأوروبي المتهافت على الموضة والتواق إلى التغيير. فلكل فصل من الفصول ملابسه ولوازمه وألوانه، من الفستان إلى البذلة إلى النظارة والقبعات واللوازم المنزلية وغير ذلك من المواد الأخرى. ويمكن اعتبار الأسواق العشوائية المغاربية بالضواحي الباريسية، الوجهة المفضلة للغزو التجاري الصيني والمنفذ الرئيسي للسلع المهربة، حيث تتدفق على هذه الأسواق كميات هائلة من البضائع الصينية من الإبرة إلى المنتجات الغدائية، ومن الأحذية والملابس إلى ولاعات السجائر مرورا بالأجهزة الإلكترونية والأدوات المنزلية ولعب الأطفال وفوانيس رمضان وسجاجيد الصلاة والساعات الحائطية والأجهزة الكهربائية والمصنوعات الجلدية وغيرها من المواد ذات الإقبال الواسع في أوساط الجاليات الأجنبية مغاربية وإفريقية وغيرها. والقوة الناعمة حاضرة أيضا بقوة من خلال مطاعمها التي تكتسح العاصمة الفرنسية، حيث لا يمكنك أن تمر من حي أو شارع باريسي دون أن تشتم رائحة الطهي الصيني بتوابله ونكهاته ومكوناته الغذائية المتنوعة وكذلك بطقوسه الحميمية الضاربة في جذور الحضارة الآسيوية التي تشكل الصين نواتها الرئيسية. فما أن تطأ قدماك بوابة المطعم حتى تجد نفسك في قلب اللون الأحمر (لون العلم الصيني) على نغمات الموسيقى الصينية الحاضرة مع كل الأطباق، والانحناءة المألوفة للمضيفة بفستانها الأحمر النبيذي وغير ذلك من الطقوس المستنبتة من أصول الضيافة الصينية العريقة. وحتى لا نستفيض في وصف نكهة المطبخ الصيني وتنوعه واعتدال أسعاره وتهافت الفرنسيين عليه، فإن ما يلفت الانتباه من الوجهتين التجارية والثقافية هو تزاوج العقل الفرنسي الليبرالي مع الفكر النمطي الصيني المحافظ ، إذ أصبح الفرنسيون ينتبهون بل يدركون أن هناك حضارات عظيمة غير تلك التي نشأت في أوروبا وامتدت إلى شمال أمريكا وأستراليا، يتعين التفاعل والتعامل معها بما يسهم في إغناء التنوع الثقافي بين الشعوب والحضارات، ويلغي النظرة النمطية السلبية التي يرسمها الأوربيون عن الآخر. ولا واحد من المطاعم وعددها يقارب العشرة آلاف في باريس والضواحي، يستطيع أن ينافس المطاعم الصينية (حوالي 500مطعم)، لا من حيث النكهة أو الغنى أو التنوع، بشهادة الذواقيين من مختلف الأجناس الذين يضعون الطبخ الصيني في المرتبة الأولى عالميا قبل الطبخ الفرنسي في الرتبة الثانية والطبخ المغربي في المرتبة الثالثة، ولا من حيث التكلفة الغذائية التي تزيد من الإقبال عليها. وما من مطعم يشتغل بجوار المطعم الصيني إلا وهو محكوم عليه بالتوازي مع الأثمنة الصينية أو الإفلاس. غزو تجاري يشمل كافة المستلزمات البسيطة منها والمتطورة، غزو غذائي يكرس الحضارة الصينية المتأصلة في أعماق التاريخ : أليس في سحر القوة الناعمة ما يمهد لغزو ثقافي قد يمتد صداه من أفضى المعمور إلى أقصاه..؟