يبدو أنّ كورونا لم تترك مجالا منسيّا إلّا نبشت فيه، فكما كانت على سبيل المثال سببا في تحرير ملك عمومي استعصى تحريره على سلطة القانون محتميا بالشق الاجتماعي من المشهد العام، ها هي اليوم مذكّرة وزارة الدّاخليّة الأخيرة (04 ماي 2020) تحرّك ما ركد من مياه في موضوع السّقي بالمياه المستعملة التي ينظّمه قانون الماء 15-36، والمرسوم 2-97-875 صادر في 6 شوال 1418 ( 4 فبراير 1998) يتعلّق باستخدام المياه المستعملة، منشور في الجريدة الرّسميّة 5 فبراير 1998، و المرسوم المشترك رقم 01-1276 المؤرخ يوم 17 أكتوبر 2002 بشأن تحديد معايير نوعية المياه المخصصة للرّي. ولأنّ المعنيّ بالمراسلة الموجّهة إلى الولاة والعمّال هو قطاع الفلاحة الذي يستعمل المياه المستعملة (العادمة) في السّقي، فإنّه لا بدّ من الإشارة إلى أنّ المقصود بالمياه المستعملة والتّي يمكن إعادة استعمالها في الرّيّ هي التي تشير إليها المادّة(2) من المرسوم 875-97-2: “لا يسمح باستخدام أي ماء مستعمل إلا إذا ثبتت تصفيته من قبل مع مراعاة أحكام المادة 15 أدناه”، هذه الأخيرة تضرب لمستخدمي المياه المستعملة في تاريخ نشر هذا المرسوم أجل خمس سنوات للتّقيّد بأحكامه. وحسب المادة (4) فإنّه يُوجّه طلب الترخيص المنصوص عليه في المادة الأولى أعلاه إلى مدير وكالة الحوض المائي، وبالإضافة إلى ما يجب أن يتضمن من وثائق فإنّ أهمّ ما يجب أن يُشفع به في نظري هو دراسة لمدى تأثير المشروع في الصّحّة والسّلامة العامّة وفي الحفاظ على جودة مياه الملك العام المائي. وحسب المادة (5) يُعرض طلب الترخيص والأوراق المشفوع بها على نظر لجنة يرأسها مدير وكالة الحوض المائي من ممثلي المصالح التّابعة للوزارة المكلّفة بالبيئة ومصالح العمالات أو الأقاليم المعنية بالوزارة المكلفة بالتجهيز والوزارة المكلفة بالصّحّة العموميّة والوزارة التّابع لها قطاع استخدام المياه المستعملة المصفاة، ويتخذ مدير وكالة الحوض المائي بعد الاطلاع على رأي اللّجنة قراره في شأن الطّلب ويجب أن يكون كل رفض ترخيص معلّلا. وإذا كانت أسباب نزول المراسلة هو الحفاظ على الصّحّة العامّة للمواطن والمجتمع باعتبار اكتشاف بعض الدّوّل (جينومات) فيروس كورونا في المياه المستعملة (الصرف الصحي) ناتجة عن براز الأشخاص المصابين بالفيروس، فإنّ الإجراء المطلوب من السّلطات العموميّة حسب المراسلة هو تشديد المراقبة حول استعمال المياه العادمة، وبالتّالي يُمنع السّقي بماء لم تثبت تصفيته، كما يُمنع الاستعمال غير القانوني لهذه المياه. وقبل التّرجّل عن صهوة جواد القانون الرّاقي الذي ينظّم عمليّة الرّي بالمياه المستعملة (العادمة) والمتوّج بمناسبة جائحة كورونا بالمراسلة الذّكيّة والاستباقيّة من وزارة الدّاخليّة، لا بدّ من التّوضيح أنّ المقصود بالتّصفيّة هو ما تقوم به محطّات التّصفيّة التي ينظّمها كذلك القانون وتخضع لمعايير محدّدة، خبرتها جيّدا المجالس التّرابيّة التي عزمت على إنشاء محطّات للتّصفية كخطوة أوّليّة تسبق إنشاء شبكة تصريف المياه العادمة، والتّي عانت أو لازالت تعاني من إعداد ملف مثقل بالإجراءات الاحتياطيّة، وبالتّالي فهذه المياه سواء كان مصدرها الوحدات الصّناعيّة أو الأحياء السّكنيّة لن تُعتبر صافيّة حتّى لو قطعت عشرات الكيلومترات في مجرى مائي مكشوف لأشعّة الشّمس، ولن تُعتبر صافيّة حتّى لو أطلق على هذا الأخير اسم الصّفاية أو الفرّاغة أو أيّ اسم آخر ألطف يدلّ على الجمال والجريان. فهلّا انتبه السّالكون التّدابير البخسة و الحلول السّهلة من الذين ينتجون المياه العادمة و يلقون بها في الهواء الطّلق أو في المجاري المائيّة دون تحمّل تكاليف التّصفيّة، والذين يلقون بأنابيب مضخّاتهم في هذه المجاري خفية أو تحت ضوء النّهار لريّ حقولهم بمياه رخيصة التّكلفة مع مكافأة (بونيس) تتمثّل في سماد “بشري” مجّاني، وهلّا ينتبهون إلى أنّ المشرّع الذي سنّ هذه القوانين لم يكن هدفه عرقلة مشاريعهم ولكنّ مبتغاه هو حماية الفرشة المائيّة وحماية البيئة و حماية صحّة المستهلك، ولأنّ هذا الثّلاثي ملكيّة مشتركة بين كلّ سكّان الوطن، بل كلّ سكّان الأرض، على امتداد الجغرافيا و بين الأجيال المتتاليّة، فكلّنا في سفينة واحدة إذا غرقت غرقنا جميعا وإذا نجونا، نجونا جميعا؛ سواء منّا حرّاس القانون أو الذين خرقوه أو أولئك الذين توهّموا أنّهم غير معنيّين بالمشهد جملة وتفصيلا، وهلّا يدركون أن خير ما يتركونه لورثتهم من الابناء والحفدة والأجيال المقبلة هو ماء وتربة وهواء صالحين للاستعمال غير ملوّثين بموادّ سامّة ولا معادن ثقيلة، و كذلك عادات حسنة تحافظ على البيئة وعلى الصّحة والسّلامة العامّة. لقد أضحت الجائحة مرآة رأينا فيها ما خفي عنّا من معيشنا اليومي، و رأينا فيها حقيقة وجوهنا ما حسُن منها وما قبُح، وأصبح كوفيد 19 اليوم هو المطلوب الأوّل ويجري البحث عنه أو يُخشى وجوده في أيّ مكان بما في ذلك المياه العادمة الغير الخاضعة للتّصفيّة، وهذا لا يعني أنّ هذه الأخيرة سينتهي خطرها مع انتهاء تهديد كوفيد19، من أجل كلّ ذلك تمنّيت لو استمر تفعيل المذكّرة إلى ما بعد كورونا بما تحتويه من فرض للقانون المنظّم للسّقي بالمياه المستعملة، وتمنّيت كذلك رؤية وصلات إعلاميّة توعويّة على القنوات التّلفزيونيّة تنبّه الفلّاح المغربي إلى خطورة السّقي بالمياه العادمة التي لم تخضع للتّصفيّة احتراما للقانون، واحتراما للبيئة وللفرشة المائيّة، واحتراما للمواطن وحفاظا على صحّته وصحّة المجتمع، وتنبّه المستهلك إلى خطر المنتجات المسقيّة بالمياه العادمة أو بمياه اختلطت بها، تمنّيت أن تكسر هذه المذكّرة طوق الصّمت الذي يحيط بهذا الموضوع منذ زمان على الرّغم من وجود هذه التّرسانة القانونيّة المتقدّمة التي تنظّمه.