للقرارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية…الكبرى التي تتحكم فيها النظرة الضيقة والحسابات الصغيرة، كلفة ثقيلة، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا…على الدولة والمجتمع معا، إن عاجلا أو آجلا. ولفهم ما يقع اليوم في بلادنا، علينا أن نعرف ما وقع في الماضي. فالمشاكل التي يتخبط فيها المغرب حاليا، سواء على المستوى السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي أو الثقافي أو غير ذلك من المجالات (وهي، على كل حال، مجالات متداخلة ومتشابكة)، ليست وليدة اليوم؛ بل تجد جذورها وتفسيرها أو على الأقل، تبريرها، في العديد من القرارات السياسية التي اتُّخِذت في عهد الملك الراحل الحسن الثاني. فنحن، اليوم، نعاني من تراكمات المخلفات السلبية الناتجة عن قرارات سياسية، كان الهدف منها ليس بناء الدولة الحديثة على أسس متينة، قوامها الديمقراطية المُعَبِّئة للطاقات الوطنية والمواطنة والمُنتِجة للنخب السياسية الكفأة والمخلصة لوطنها؛ بل كان هدفها ينحصر في التضييق، بكل الوسائل، على القوى السياسية الديمقراطية والتقدمية من أجل تحجيمها وإضعافها؛ مما تسبب في خلق كائنات سياسية ممسوخة ومشوهة، خنوعة وفاسدة؛ فكرها ضحل وتفكيرها لا يتعدى المصلحة الشخصية أو، على أكبر تقدير، المصلحة الحزبية الضيقة. فبالرغم مما يوصف به الملك الراحل الحسن الثاني من ذكاء ودهاء وبعد نظر، فإن بعض حساباته (أو حسابات محيطه)، كان أفقها ضيقا جدا. فهي التي تسببت في مشاكل هيكلية، لا يزال مغرب الألفية الثالثة يئن تحت وطأتها ويبحث عن مخرج من تحت سطوتها. وما الإقرار الرسمي، على لسان رئيس الدولة، بفشل النموذج التنموي ببلادنا إلا اعترافا بهيكلية الأزمة وتجذرها، وإيذانا بالشروع في البحث عن حلول واقعية قد تخرج البلاد من أزمتها البنيوية. وقد سبق للحسن الثاني نفسه أن اعترف، في أواسط التسعينيات من القرن الماضي، في ما يشبه نوعا من النقد الذاتي، بوصول البلاد إلى ما وصفه ب”السكتة القلبية”؛ وذلك، طبعا، بفعل الاختيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تبناها المغرب. ف”السكتة القلبية” ما هي إلا نتيجة حتمية لهذه الاختيارات الفاشلة، تصورا وتدبيرا، بفعل النظرة الضيقة التي تحكمت فيها. وسوف أقصر اهتمامي، هنا، على مجالين أساسيين: مجال التربية والتعليم ومجال التعددية الحزبية، اعتبارا لما لهما من دور كبير في تكوين أطر الدولة وتشكل الطبقة السياسية. ففي مجال التعليم، ما كان للجدال القائم حاليا (والذي يعود بنا عقودا إلى الوراء) حول لغة تدريس المواد العلمية، أن يكون؛ وما كان له أن يشكل أرضية خصبة للمزايدات السياسية والاستغلال الإيديولوجي الواضح للمسألة اللغوية، لو لم ينل اقتراح عز الدين العراقي، وزير التربية الوطنية وتكوين الأطر، في أواخر السبعينيات من القرن الماضي، موافقة الملك على تعريب المواد العلمية وإلغاء تدريس الفلسفة. وليس هذا فقط. فقد كان من تبعات هذا القرار الخطير أو من مخرجاته، إلغاء شعب الفلسفة في كليات الآداب والعلوم الإنسانية وتعويضها بشعب الدراسات الإسلامية، مع الحفاظ على اللغة الفرنسية في تدريس المواد العلمية والتقنية في المؤسسات الجامعية. ويعلم الجميع ما آل إليه التعليم في بلادنا في كل مستوياته. وقد تعرضت الخطب الملكية غير ما مرة لهذا الموضوع، خلال العشرية الأخيرة. وتجدر الإشارة إلى أن الإقدام على مثل هذه القرارات الخطيرة، لم يتم بشكل عفوي أو بدون وعي بعواقبها على مستقبل أبناء الشعب المغربي ومستقبل مؤسساتنا الجامعية وخريجها، وبالتالي على مستقبل بلادنا؛ بل كان ذلك مقصودا لذاته ولغاية في نفس الملك الراحل الحسن الثاني، والتي عبر عنها، بكل وضوح، في المجلس الوزاري الذي اتُّخِذ فيه قرار التخريب، عفوا التعريب. فلما أبدى السيد عبد اللطيف الفيلالي ملاحظة حول اقتراح عز الدين العراقي، مفادها أن من شأن إقرار هذا الاقتراح أن يضع حدا لانفتاح بلادنا ويرهنها لدوامة الانغلاق، كان جواب الحسن الثاني بما يفيد أن تعلم أبناء المغاربة، يحولهم إلى يساريين معارضين؛ وعليه، فالحل هو تحطيم التعليم وتخريبه. وهكذا، يتضح أن قرار التعريب لم يكن تمليه لا ضرورة بيداغوجية ولا حاجة مجتمعية؛ بل كان قرارا سياسيا صرفا، الهدف منه تجهيل أبناء الشعب المغربي، كما قال الدكتور محمد جسوس، أب السوسيولوجا المغربية والقيادي الاتحادي البارز والمتميز. ويتذكر الطلبة الاتحاديون ونشطاء الشبيبة الاتحادية من جيل الثمانينيات من القرن الماضي، كما يتذكر الرأي العام المتابع للقضايا الوطنية، صرخة محمد جسوس بفاس، في عرض ألقاه خلال المؤتمر الوطني الرابع للطلبة الاتحاديين؛ تلك الصرخة التي أغضبت الملك الحسن الثاني، فأمر وزيره في التربية الوطنية بالرد على ما جاء في عرض القيادي الاتحادي . لقد قال محمد جسوس، في هذا العرض، من جملة ما قاله: “إنهم يريدون خلق أجيال جديدة من الضباع”. وأعتقد أن الواقع والتاريخ قد أكدا رأي جسوس. ولا مجال للخوض في التفاصيل. ولنكتف بالقول بأن النقاشات السياسية الرفيعة والعميقة، وكذا السجالات والمناظرات الفكرية الراقية قد اختفت من حقلنا الثقافي ومن مجتمعنا السياسي، بسبب “طردها” من الحرم الجامعي المغربي الذي لحقه ما لحقه من مظاهر التردي الفكري والسلوكي، من قبيل العنف الجسدي المؤدي إلى الموت، وانتشار “ثقافة” البخور والعطور الشرقية (أساسا، الخليجية) والكتب الصفراء وشرائط الوعاظ، وكأننا أمام مسجد (مع ملاحظة أن هذه الأشياء لا تعرض داخل المساجد)، وليس في باحة كلية، التي يفترض فيها أن تشهد مناقشات فكرية ومناظرات “علمية” أو سجالات معرفية، لا أن تكون مسرحا لعرض “حقائق” و”أفكار” لا تقبل النقاش. لقد تذكرت – وأنا أقرأ افتتاحية جريدة “الأخبار” ليوم الأربعاء 3 أبريل بعنوان “محاولة للإرباك”- نونبر 1978 وجواب الحسن الثاني، خلاله، لأحدهم عن انتماء رجال التعليم. وهذا ما دفعني إلى كتابة هذا المقال. فعندما قرأت، في الافتتاحية المذكورة، بأن الخرجة الإعلامية الأخيرة لرئيس الحكومة السابق، صاحب المعاش الاستثنائي، حول قانون الإطار المتعلق بالتعليم، ليلة التصويت عليه في البرلمان، كان بهدف ا”لضغط على المؤسسات الدستورية من أجل تحقيق هدفه للإصلاح الذي يحافظ على زبائنه التقليديين من رجال التعليم الذين يشكلون القاعدة الانتخابية والسياسية لحزب العدالة والتنمية”، تذكرت اللقاء الذي جمع الملك الحسن الثني بالرؤساء السابقين للاتحاد الوطني لطلبة المغرب في نونبر 1978. وقد دعا الملك المسؤولين السابقين للمنظمة الطلابية، ليعلن، رسميا، عن رفع الحظر عن هذه المنظمة. وقد كان من بين الحضور بعض المسؤولين السياسيين، فطلب الكلمة أحد أقطاب الأحزاب الإدارية ليطالب ب”نصيب” حزبه في هذه المنظمة، فأجابه الحسن الثاني بأنه يعلم الجهة التي ينتمي إليها الطلبة ورجل التعليم؛ وكأنه يقول لصاحب الطلب بأن لا حظ له ولحزبه في هذه الفئة من المواطنين الذين اختاروا الانتماء إلى اليسار، وفي طليعته حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. ويبدو، من خلال بعض القرائن التاريخية والتحولات الاجتماعية والمجتمعية، أن رفع الحظر عن المنظمة الطلابية التي لم ينقطع النضال من أجل استعادة شرعيتها ومشروعيتها، لم يتم إلا بعد الاطمئنان على توفر شروط نهايتها الفعلية وليس القانونية. فبعد التعريب التخريبي وإلغاء شعب الفلسفة التي كانت تشمل أيضا علم الاجتماع وعلم النفس، وزرع شعب الدراسات الإسلامية في كل كليات الآداب والعلوم الإنسانية – بدل الاكتفاء بالمؤسسات التابعة لجامعة القروين (كلية الشريعة بفاس، كلية أصول الدين بتطوان، كلية بنيوسف بمراكش والفروع التابعة لهذه الكليات) ومدرسة الحديث الحسنية بالرباط – تم، بالموازاة مع كل ذلك، تشجيع حركات وجمعيات الإسلام السياسي على الدخول إلى الجامعة والتغلغل في ثنايا المجتمع بهدف مواجهة المد الديمقراطي التقدمي واليساري وتحجيم حضوره في كل المستويات. وقد تلقت هذه الحركات والجمعيات الدعم السياسي من طرف بعض رجال الدولة مثل مولاي أحمد العلوي (وزير دولة) وإدريس البصري، وزير الداخلية. لذلك، لا أستغرب، شخصيا، من أن يكون لنا سياسيون من عينة بنكيران وأبو زيد والأزمي وغيرهم كثر، ولا أن يكون لنا علماء من صنف الريسوني والفزازي والرواندي وغيرهم كثر أيضا. كما لا أستغرب التحول الخطير الذي لحق المدرسة والجامعة المغربيتين، سواء من حيث نوعية الأطر التربوية، أو من حيث مستوى الخريجين ورصيدهم المعرفي والثقافي. فكم تغيرت المستويات والمفاهيم وتغيرت الأخلاق والقيم !!! أتذكر، في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، أن انخراط أستاذ جامعي في حزب رجعي كان بمثابة سبة بالنسبة لمن يقدم عليه. فأغلب الأساتذة الجامعيين كانوا ينتمون إلى اليسار. وإذا حدث وانتمى أحدهم إلى حزب خارج أحزاب اليسار، لمصلحة شخصية ما، كان يتحاشى أن يُكتشف أمره. فحتى الحزب الوطني الكبير، حزب الاستقلال، لم يكن ينتمي إليه إلا عدد قليل من الجامعيين. ولما تغيرت الأحوال وتدنى مستوى النخب وأصبح للسياسة طعم آخر ومفهوم آخر، ليس فيه مكان للمثل العليا ولا تحتل فيه الصدارة القضايا الوطنية والمجتمعية الكبرى، أصبح من السهل، بالنسبة لكثير من السياسيين، التضحية بمصلحة الوطن ومصلحة أجيال المستقبل، خدمة للمصلحة الشخصية والمصلحة الحزبية الضيقة. فلا غرابة، إذن، أن نجد من يواجه بشراسة كل محاولة لإصلاح المنظومة التعليمية ببلادنا، بمبررات يكذبها الواقع ويناقضها السلوك الشخصي للمدافعين عن الوضع القائم. وبالعودة إلى افتتاحية “الأخبار”، نقرأ ما يلي في فقرتها الثانية: “فبنكيران يدرك، قبل غيره، أن إدخال أي إصلاحات على المنظومة العتيقة للتعليم العمومي، وإخراجها من التقوقع والانفتاح على اللغات والثقافات الأخرى، يعني بداية تفكك الطبقة الصلبة التي تشكل مصدر قوة الحزب الحاكم، ويكفي النظر إلى الفريق البرلماني والقطاع النقابي والمجلس الوطني للاقتناع بسطوة رجال التعليم على مفاصل القرار الحزبي، ومقاومة أي سياسة يمكن أن تفتت هاته النواة التي تطلق يدها على الحزب الحاكم”. لذلك، نرى أن كل ما يقال عن الهوية الوطنية والدينية وعن المصالح العليا للوطن وعن الثوابت الوطنية والدينية وغير ذلك، ما هو إلا كلام حق يراد به باطل. فالمدافعون عن تدريس المواد العلمية باللغة العربية، مخادعون ومنافقون ومضللون…لأن أبناءهم، بكل بساطة، لا يدرسون هذه المواد باللغة العربية. أضف إلى ذلك أن تدريس المواد العلمية بلغة أجنبية، لا يمس، أبدا، بقيمة اللغة العربية كلغة رسمية إلى جانب اللغة الأمازيغية التي، إلى يومنا هذا، لم تتم المصادقة على قانونها التنظيمي. وإذا أضفنا إلى تخريب التعليم وتقويض أسس المدرسة العمومية المغربية، عملية الإفساد الممنهجة التي تعرض لها الحقل السياسي على يد وزراء الداخلية في عهد الملك الحسن الثاني، من خلال فبركة ما يسمى في القاموس السياسي المغربي بالأحزاب لإدارية (وهي، في الوقع، أحزاب الدولة) من أجل خلق تعددية حزبية مصطنعة، ندرك حجم الأضرار والإساءة البالغة التي لحقت، بفعل الاستبداد، بمؤسسات الدولة والمجتمع. ففبركة الأحزاب الإدارية وتزوير الانتخابات لصالحها، ضدا على إرادة الناخبين، كان بمباركة رئيس الدولة. وكانت هذه العملية تهدف، من جهة، إلى تمييع المشهد السياسي بخلق نخب سياسية ضعيفة وفاسدة، في المؤسسات التمثيلية، تأتمر بأوامر السلطة وتمتثل لنواهيها؛ ومن جهة أخرى، كانت تهدف إلى تحجيم وتقزيم قوة اليسار، ممثلا، أساسا، في الاتحاد الوطني/ الاتحاد لاشتراكي للقوات الشعبية والمنظمات الاجتماعية القريبة منه. وإذا نجحت هذه السياسة في شيء، فهو، من جهة، إبعاد الكفاءات الوطنية الحقيقية عن الشأن العام؛ ومن جهة أخرى، زرع اليأس وانعدام الثقة في السياسة والسياسيين؛ الشيء الذي يغذي ويقوي العزوف عن صناديق الاقتراع، ليبقى المجال مُشْرَعا أمام نوعين من “الرشوة الانتخابية”؛ فهناك الصنف الذي يتدثر بالعمل الخيري لفائدة المعوزين بواسطة جمعيات تستغل المال العام بحصولها على منح سخية تقدمها لها الجماعات، بعد أن تكون هذه الأخيرة قد ساهمت في تكوينها أو شجعت على ذلك؛ وهناك، أيضا، التبرعات التي يجود بها “المحسنون”؛ أما الصنف الثاني، فيكتفي بفتح “دكاكين”، خلال فترة الانتخابات، لشراء ذمم المستضعفين من الناخبين. لذلك، يعمل أصحاب الرشوة الانتخابية على تشجيع العزوف الانتخابي حتى يتحكمون في الوضع. وقد سبق لي أن كتبت في هذا الموضوع (انظر “العزوف والمقاطعة والرشوة الانتخابية، الثالوث الأخطر على البناء الديمقراطي”، “زايو سيتي” بتاريخ 28 شتنبر 2016). أما عن التعددية الحزبية المصطنعة، فقد كتبت عدة مقالات؛ لذلك، سوف أكتفي بهذا النزر اليسير حول هذا الموضوع، الذي يظهر بجلاء، رغم إيجازه، مساوئ الحسابات الضيقة وكلفتها الباهظة على المشهد السياسي؛ وبالتالي، على الدولة والمجتمع. ومن أراد أن يطلع على بعض هذه المقالات، فهي موجودة في موقع “مغرس”؛ ويكفي كتابة اسم الكاتب (محمد إنفي) في “غوغل” ليحيل هذا الأخير الباحث على موقع “مغرس” حيث لائحة كل مقالات الرأي التي كتبتها. ختاما، أشير إلى أن تمييع العمل السياسي وإفساد التعليم العمومي، هو ما أعطانا طبقة سياسية هجينة وقيادات سياسية تغطي عن فقرها المعرفي وضحالة فكرها ومحدودية تفكيرها، بالمزايدات السياسية والخطابات الشعبوية التي تدغدغ عواطف عامة الناس من أجل أصواتهم الانتخابية، حتى يتسنى لها الحفاظ على مواقعها التمثيلية، رغم كل كوارثها التدبيرية التي تسببت في الاحتقان الاجتماعي بسبب تدهور الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والحقوقية وغيرها. أعتقد أن أمام المغرب، دولة ومجتمعا، فرصة ثمينة لإعادة النظر في منظومته التعليمية التي تم إفراغها، عمدا وقصدا، من مضمونها الإيجابي ودورها الأساسي في بناء الإنسان المغربي القادر على العطاء. أتمنى أن لا يُضيِّع المغرب هذه الفرصة، إن بالتوافق أو بفتح حوار وطني حول الموضوع لتعرية الخلفيات الحقيقية لكل موقف.